مكتئبون ومبتسمون: كيف يلتقط الطبيب إشارات المرض؟

تبدو الصورة النمطية للمكتئب، على أنه ذلك الشخص الذي ترتسم على ملامحه الكآبة والحزن، ويعيش في عزلة عن العالم من حوله، لكن على عكس هذه الحالة، هناك نوع أخطر من الاكتئاب، وهو “الاكتئاب المبتسم” والمصابون به يظهرون على أنهم سعداء لكنهم في الواقع على حافة الانتحار.
ليس كل من يبتسم سعيدا، فأحيانا يختفي وراء تلك الابتسامة شعور مرير باليأس والحزن والاضطراب النفسي، إلا أن البعض من المكتئبين يبدون قادرين على إخفاء جميع أعراض الاكتئاب بنجاح وإيهام من حولهم بأنهم سعداء، وحياتهم تسير على ما يرام، فيظهرون كأشخاص عاديين عند لقائهم وإجراء محادثات معهم، في حين أنهم على حافة الانتحار.
وشاع في السنوات الأخيرة استخدام مصطلح “الاكتئاب المبتسم” (smiling depression) أو “الاكتئاب اللانمطي”، وهو بالنسبة إلى الحالة التي يظهر من خلالها المكتئب مشاعر الفرح والبهجة، وهذه الحالات تكون مضللة للأطباء النفسيين أنفسهم، الذين يكون من الصعب عليهم تمييز أعراض الاكتئاب لدى مثل هذا النوع من الحالات، كما أن هؤلاء المكتئبين يجدون صعوبة في الاعتراف بالاكتئاب ومناقشته مع الآخرين.
وحذرت أبحاث حديثة من ظاهرة “المكتئب المبتسم” التي يكون فيها الشخص محطما من الداخل، ورغم هذا يبالغ في إظهار ردود فعله السعيدة للناس، حتى لا يكتشف أمره أحد.
وتنتشر ظاهرة “الاكتئاب المبتسم” بشكل كبير في صفوف الفنانين، ففي عام 2014 أقدم على الانتحار الممثل الكوميدي الأميركي الشهير روبن وليامز، رغم أنه يعد من أبرز صناع البهجة حول العالم، واشتهر بأدواره الكوميدية الطريفة التي أضحكت الملايين، ومع ذلك فحياته كانت عكس الكوميديا التي أتقنها في أدواره التمثيلية المختلفة، فقد كان يعاني في صمت من الاكتئاب ما دفعه إلى إنهاء حياته بشكل مريع.
معاناة صامتة

ريبيكا لورانس: المكتئبون المبتسمون يجهدون أنفسهم للحفاظ على الواجهة الخارجية
إلا أن “الاكتئاب المبتسم” لا يقتصر على النجوم ولا على فئة عمرية أو وضع اجتماعي محدد، بل يعد من أكثر الأمراض النفسية شيوعا في مختلف دول العالم.
وأشارت دراسات طبية إلى أن واحدا من بين كل 10 أشخاص يعانون من الاكتئاب حول العالم، في حين تتراوح نسبة من يعاني “الاكتئاب المبتسم” ما بين 15 إلى 40 في المئة منهم.
وبرع الممثل الأميركي خواكين فينكس في تجسيد هذه الحالة النفسية لـ”المكتئب النفسي” في فيلم “الجوكر” الذي تم طرحه في أكتوبر 2019، فقد كانت تنتابه نوبات الضحك، رغم أن قلبه يعتصر من الألم والحزن.
ويتصف من يعانون هذا النمط من الاكتئاب بسرعة “تقلب مزاجهم”، إذ تكفي رسالة نصية قصيرة مثلا تشيد بإنجازاتهم في أعمالهم لرفع إحساسهم بالسعادة، إلا أنهم يعودون بسرعة كبيرة إلى وضعهم الحزين.
وقالت الدكتورة ريبيكا لورانس استشارية الطب النفسي في بريطانيا “يبدو هذا الأمر غريبا، فالأشخاص المكتئبون يفترض أن يعانوا من أعراض منهكة كالإرهاق والتعب، لكن بالنسبة إلى المكتئبين المبتسمين فإنهم قادرون على إخفاء ذلك، حتى على أسرهم، ما يجعل من الصعب التحقق من مرضهم إن كان حقيقيا أو لا، إنهم يتمكنون من الذهاب إلى العمل ويضحكون وقادرون حتى على المزاح”.
وأضافت “أعتقد أنه قد تكون هناك نقطة انكسار للمكتئبين السعداء، فلن يكونوا قادرين على الحفاظ على تلك الواجهة لفترة أطول”.
وتساءلت لورانس “هل يعني هذا أنهم يعانون أقل عندما يبتسمون؟ في الواقع لا، فهم يحاولون إجهاد أنفسهم للحفاظ على هذه الصورة الخارجية، والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، وهذه أحد أكثر الجوانب المرهقة لاعتلال الصحة العقلية، وقد يكون زوال الابتسامة دليلا على التعافي”.
وأشارت “نحن كمعالجين نفسيين نقضي الكثير من الوقت في تقييم المخاطر، لأننا بالطبع نريد إنقاذ الناس ومنعهم من إيذاء أنفسهم، أو – في حالات نادرة جدا – إيذاء الآخرين”.
وأوضحت “تقييم المخاطر ليس علما دقيقا، وقد نضطر إلى توخي الحذر الشديد بشأن الكثيرين لإنقاذ واحد، وفي بعض الأحيان، على الرغم من كل الجهود التي نبذلها، فإننا نخطئ”.
الصورة الخارجية

أوليفيا ريميز: المرضى يخفون مزاجهم المتقلب وحزنهم الداخلي بالوجه المبتسم
وقالت الباحثة أوليفيا ريميز، التي أشرفت على دراسة أجريت في جامعة كاليفورنيا على “المكتئبين المبتسمين”، إنه يجب على الطب النفسي أن يعترف بهذه الأعراض كحالة نفسية معقدة، وهي تصيب الكثير من الأشخاص والعاملين في مجال الكوميديا ومدّعي السعادة”.
وأضافت “هؤلاء المرضى يخفون مزاجهم المتقلب، والحزن والتهيج الموجود بداخلهم مع وجه مبتسم بصورة دائمة ومفرطة، أكثر حتى من الحد الطبيعي للأشخاص السعداء بوجه عام، وهذا يزيد من اكتئابهم ويتسبب في كبت مشاعرهم بصورة أكبر، ما يجعلهم عرضة للانتحار المفاجئ”.
ولفتت أوليفيا ريميز الباحثة في جامعة كامبريدج إلى أن “الاكتئاب المبتسم” ليس فقط مصطلح تقني يستخدمه علماء النفس، بل إنه أقرب تسمية علمية لمن يصاب بالاكتئاب وينجح في إخفاء الأعراض.
وحذرت ريميز من أن هذه الحالة من الاكتئاب قد تدفع الكثيرين إلى الانتحار، مشيرة إلى أنها تعد أكبر قاتل للأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 35 عاما في المملكة المتحدة.
ويؤكد خبراء علم النفس أنه يصعب تحديد الأسباب المباشرة التي تؤدي إلى الإصابة بـ”الاكتئاب المبتسم”، لكن المصابين به هم غالبا ممن يعانون من المزاج المتقلب، وقد يرتبط ذلك بأنهم أكثر عرضة لتوقع الفشل، ومواجهة صعوبات في التغلب على بعض المواقف المحرجة أو المهنية، ويميلون إلى التفكير في المواقف السلبية التي يحتمل أن تحدث.
وأكد عالم الأعصاب النمساوي فيكتور فرانكل أن “حجر الزاوية في الصحة العقلية الجيدة” هو وجود هدف في الحياة، مشددا على ضرورة ألا يسعى الناس إلى الوصول إلى “حالة خالية من التوتر والمسؤولية والتحديات”، بل يجب أن يسعوا إلى هدف معين في الحياة، مثل التطوع في نشاط ما.