"مكامير الفحم" في مصر خطر تائه بين الحكومة وأصحاب الأفران

تأثير صناعة الفحم على البيئة والسكان يضعها تحت رقابة وشروط متشددة، وظروف العاملين الاقتصادية تصعّب الاستجابة لشروط السلامة.
السبت 2018/11/17
ضحايا بلا ذنب

خلق إخفاق الحكومة المصرية المتكرر في تحقيق استقرار في العديد من المشروعات الصغيرة القائمة منذ عقود، حالة من الفتور لدى قطاع كبير من المصريين في الاستجابة لقرارات المسؤولين وشروط تشجيع الاستثمار في العديد من المجالات. ويعدّ نموذج “مكامير الفحم” أحد تلك المشروعات التي لم تفلح الحكومة في إيجاد حل جذري له.

الشرقية (مصر) – وضعت الحكومة المصرية شروطا بيئية جديدة على أصحاب ورش تصنيع الفحم (المكامير) لتقليل خطر الغازات المنبعثة منها، وجاء من ضمن الشروط استخدام أفران صديقة للبيئة. ورغم سلامة وأهمية تحركات المسؤولين، لكن أصحاب المكامير يرون أنها مجحفة، ولم تضع في الاعتبار ظروف العاملين وأصحاب الورش الاقتصادية وتأثيرها على جودة المنتج.

المكمورة، هي حفرة في الأرض يوضع بها خشب الأشجار بعد تقطيعه على شكل مخروطي بارتفاعات عالية، ويتم إشعال النار فيه لمدة محددة ومراقبته حتى يتحول إلى فحم، وتستغرق عملية التفحيم من 3 إلى 5 أيام، حسب كمية الخشب المستخدمة.

وتسببت بدائية هذه الصناعة في خلافات دائمة بين أصحاب المكامير والدوائر السكنية المتاخمة لها بسبب انبعاث الغاز والأدخنة السوداء الكثيفة التي تحملها الرياح إليهم جرّاء حرق الأخشاب وما ينتج عنها من أمراض خطيرة.

واتخذت الحكومة قرارا بإنشاء لجان لضبط أوضاع تلك المكامير، ووضعت ضوابط واشتراطات خاصة بها، وأعلنت عن أفران آمنة لعملية التفحيم، وأصدرت وزارة البيئة قرارا بعدم تصدير (الفحم النباتي)، إلا بعد حصول المكمورة التي تنتجه على شهادة التوافق البيئي، ووضعت غرامات مالية للمخالفين تصل إلى مئة ألف جنيه (حوالي 5600 دولار).

ورغم القرارات الرادعة، لكنها واجهت عقبات في التنفيذ الفعلي، وبَقى وضع تلك الصناعة الملوثة على ما هو عليه، الأمر الذي جعل الكثير من المصريين يتهمون الحكومة بالفشل، ويستنكرون إهمالها لصناعة لن تكلفها شيئا، وتدر الملايين من الدولارات.

ويظهر فشل سيطرة الحكومة على “مكامير الفحم” جليّا على بُعد دقائق قليلة من لافتة كُتب عليها “محافظة الشرقية ترحب بكم”، وبالتحديد في قرية الحلمية شمال القاهرة، حيث تتصاعد حبال من الأدخنة السوداء والرمادية لتحجب لون السماء، والمتتبع لمسارها يكتشف أنها ناتجة عن احتراق أكوام من أخشاب الأشجار متراصة فوق بعضها بمكمورة فحم.

يكسر الرؤية المشوشة صفار القش المتناثر بشكل عشوائي وأشجار خضراء تنتظر الدور لإشعالها، وعاملين يتحركون بالمكان، أحدهم يحمل جذع الشجرة، وثان يقطعها بمنشار، وثالث يرصها بشكل متواز في “المكمورة” وآخر يحاول إطفاء الدخان، وطفل يسكب المياه وآخر يضع التراب.

تتعالى صفارات من الأفواه لتخبر العاملين بقدوم غرباء، ليختفي بعضهم عن الأنظار ويمكث آخرون رافضين الحديث ظنا منهم أنه فخ من الجهات المسؤولة لإيقاف المكمورة لأنها تعمل دون تصريح.

يكرر العاملون جملة واحدة عدة مرات، “ما باليد حيلة”، ويختارون تلك العبارة المقتضبة للتعبير عن مأساة عملهم بتلك الأماكن التي تلقي بهم في فجوة الأمراض الصدرية المعقّدة. وعلى النقيض يخرج أصحاب المكامير الفحمية ليدافعوا عن أعمالهم وشرعيتها وقيمتها.

يتميز الفرن المطروح من جانب الحكومة برخصة يستطيع صاحبه تصدير الفحم إلى الخارج

يؤكد أصحاب المكامير، أنهم ليسوا عشوائيين كما يقول البعض وأنهم ملتزمون بسداد الضرائب والمخالفات الناتجة عن أشغال الطرق وتلوث البيئة.

وبادر أصحاب المكامير بمهاجمة قرارات الحكومة ووصفوها بالارتباك والافتقار لرؤية محددة تجاه مهنتهم، واتهموها بتحاملها على البسطاء، وبالتالي يقابلون قراراتها بلامبالاة.

يوضح صاحب ورشة لإنتاج الفحم لـ”العرب” حالة الارتباك الحكومي قائلا، “العمل في المكامير كان مستمرا طوال العام، لكن جاء قرار بإيقافها لمدة ثلاثة شهور ونصف من كل عام تحديدا من 15 أغسطس إلى 30 نوفمبر، واستجبنا لأن الدخان المتصاعد من حرق قش الأرز في تلك الفترة مع المنبعث من المكامير يؤثر على طبقة الأوزون”.

وطلبت وزارة البيئة عام 2000 تطوير المكامير، وبالفعل استجاب البعض وقاموا ببناء مكمورة متطورة يلحق بها مبنى مسقوف؛ لتجميع الغازات المنبعثة، لمنع خروج الدخان ومعالجته وتحويله إلى غازات متوافقة بيئيًا، وكلف ذلك وقتها 60 ألف جنيه (3 آلاف دولار)، لكن وزارة البيئة تقاعست عن منح التراخيص لمزاولة المهنة، وتراجع الآخرون عن فكرة التطوير.

تحدث رجل أربعيني العمر، يدعى عبدالبديع يعمل بإحدى المكامير في الشرقية بعد طمأنته بعدم تواصلنا مع جهاز البيئة، عن معاناته اليومية مع المحاضر والشكاوى المقدمة ضده بدعوى عمله بشكل غير قانوني، وأنه يلوث البيئة وتشن المحافظة حملات لإزالتها.

لا يتوقف الرجل عن السعال أثناء الحديث، وجسده يغرق في العرق، شارحا أنه خريج المعهد العالي للسياحة والفنادق، ولم يجد عملا بالقرية فسافر إلى السعودية، لكنه عاد بعد إنهاء عقد عمله هناك، واشترى مكمورة فحم، وباتت ملاذا له وأسرته المكوّنة من خمسة أفراد. وفوجئ منذ شهرين بمداهمة أغلبية المكامير بالقرية، ومنها مكمورته وتم إطفاؤها، ومنح مهلة للرضوخ للحلول التي وضعتها الحكومة، قبل إزالتها.

واعتمدت وزارة البيئة ثمانية نماذج يمكن الاستعانة بها في أعمال تطوير المكامير، منها سبعة نماذج محلية الصنع، ونموذج أوكراني، والأسابيع الماضية تم طرح نموذج بولندي.

قال عبدالبديع، “الأفران الخاصة بحرق الفحم لا يقدر على شرائها إلا الأغنياء، ولا يهم الحكومة انضمام الآلاف من عمال المكامير لصفوف البطالة”.

مورد رزق قاتل
مورد رزق قاتل

يقول أصحاب المكامير، أنّ تكلفة الفرن حوالي 200 ألف جنيه (11 ألف دولار)، لكن الحكومة قررت بيع الفرن الواحد بما يوازي ستة أضعاف سعره، للحصول على ترخيص العمل بالفحم، وترفض اقتراحات أصحاب المكامير لتصنيع الأفران بأنفسهم بسبب تربحها من هذا المشروع.

يتميز الفرن المطروح من جانب الحكومة بـ”الرخصة التصديرية”، فمن يمتلكه يستطيع تصدير الفحم إلى الخارج، بدلًا من بيعه في السوق المحلية. ولا يوجد حصر دقيق لعدد العاملين في المكامير للطبيعة غير الرسمية لقطاع الفحم النباتي؛ لكن البعض يقدرهم بنحو خمسة آلاف.

تقف صباح، صاحبة مكمورة، بجلباب رث وملامح متأزمة ملطخة بغبار الفحم الأسود، لتتابع عملية حرق الفحم في مكمورتها متذكرة بدايات دخولها تلك المهنة الشاقة منذ أربعين عاما، كـ”خشّابة”، تقطع الأشجار مثل الرجال، وتقوم بتعبئة الفحم، ثم استطاعت مع الوقت الادخار وشراء مكمورة خاصة.

رفضت صباح في حديثها إلى “العرب”، الاعتراف بأن مكمورتها تسبب أضرارا، وتقول، “العاملون يلتزمون بأساسيات تعلّموها، أهمها ضرورة ألا يشعلوا النيران في الخشب به ماء، فيتركوه يجف تماما لتقليل الدخان المتصاعد”.

 وتتهم صاحبة المكمورة الحكومة بإتاحة الفرصة لشركات كبرى للسيطرة على السوق، في ظل ارتفاع أسعار أفران الفحم الحديثة وعدم قدرة أصحاب المكامير على دفع ثمنها، بجانب أن فكرة بناء أفران حديثة تؤثر على سمعة جودة فحم مكمورتها الذي يتميّز بصلابته وخلوه من المياه، ما يجعله مشتعلا لفترة طويلة، عكس الفحم الناتج عن الأفران المتطورة.

وأشار حمدي المغربي عضو بالمجلس المحلي لقرية كفر محسن بالشرقية أن وزارة البيئة تداهم كافة المكامير دون تمييز خاصة في الأماكن التي تتركز فيها ورش الفحم في محافظات الشمال، ومنها القليوبية والغربية والمنوفية والشرقية وكفر الشيخ ودمياط والبحيرة.

يقول، “وفّرت الحكومة أفرانا حديثة صديقة للبيئة تحتوى على ‘فلاتر’ تمنع انتشار الأدخنة وما ينتج عن ذلك من تلوث وأمراض، اعترضوا عليها زاعمين أنّ تكلفتها مرتفعة”. وتوقّع المغربي أن تشهد السنوات المقبلة المزيد من الصدامات بين الحكومة وأصحاب المكامير، في حال فشل المفاوضات لإقناعهم بالمثول للقرارات، مشيرا إلى أن الصناعة لن تتأثر إن أغلقت المكامير المخالفة، لأن الفحم فقد أهميته واستخداماته أصبحت نادرة.

ويرى خبراء أن الأفران الحديثة التي تقرّها الحكومة ليست مشكلة في حد ذاتها، لأنه يمكن إنشاء شركة مساهمة تضم أصحاب المكامير البدائية، وتقوم بشراء الفرن بالتقسيط من الحكومة، أو من خلال القروض.

17