مقدمو برامج التخوين يسممون أفكار الناشئة

ما نأسف له، أن السجال الدائر في الإقليم، يسمم أفكار الناشئة في قضايا جوهرية، ويختزل التاريخ بطريقة مشوهة، وينكر على كل ذي فضل فضله، ويستمري التخوين واعتماد القصص السخيفة.
الجمعة 2019/03/01
برامج هجاء وتخوين

بدا لافتا أن مقدمي البرامج السياسية اليومية، في  قنوات التلفزة، الأشد مرارة والأعلى صراخا في الهجوم على الدول التي قاطعت قطر، يبذلون قصارى جهدهم للحفاظ على جمهور المتابعين من محبي الكلام “على البلاطة” أيا كانت وجهته. لكن للبشر بحكم طبيعتهم مقدرة محدودة على احتمال الصراخ ومرارات الهجاء ولغة التخوين.

ومقدمو البرامج هؤلاء، ومعظمهم جاؤوا من خلفيات العمل المسرحي أو الإعلام الساخر، وهم ــ كما يتضح من خلال عروضهم اليومية ــ من مُحدثي المعرفة في السياسة وفي التاريخ، يعتمدون على عناصر الدعم في خلفيات الشاشة، إذ يتوافر واحدهم على فريق عمل يمده بأقصى ما يستطيع، من حصاد التتبع اليومي للإعلام العربي والدولي، ومن أعمدة الرأي، أو المادة الأرشيفية. وكان المفترض أن تقلل المواد التي يتلقونها قبل وأثناء كل حلقة، من حجم الأخطاء في سردياتهم.

على مستوى الأداء المسرحي في البرامج السياسية، لا يختلف اثنان على أن مقدمي هذه البرامج التي تبث من تركيا، ممثلون بارعون مفوّهون، يركزون على استثارة العواطف والإطالة في دغدغة المشاعر حول أي مسألة. لكن الإنسان المتلقي، بطبيعته، يضجر من الهجاء المديد، ويميل بالسليقة إلى التفتيش عن بارقة أمل.

على صعيد آخر، هناك عملية تجهيل يمارسها هؤلاء الذين يختزلون تاريخ مصر خلال قرن، في ثنائية الحكم المدني وحكم العسكر، ويخلطون بين التجارب. فكل من ارتدى البزة العسكرية، مهما كانت عناصر النبل والزهد والوطنية والثقافة المدنية في تجربته، سيكون أسوأ سلوكا من أي خائن من ذوي الطرابيش وبدلات الجوخ الإنكليزي الداكن.

 ولا فرق بين رئيس ورئيس في تاريخ الجمهورية في مصر، بل لم يكن ثمة خراب إلا في عهود الجمهورية، علما بأن الأرشيف الذي يغذي مقدمي البرامج يزخر بالصور والشواهد الدالة على أن ما انعقد لرؤساء الجمهورية الأولين الثلاثة (نجيب وعبدالناصر والسادات) من الرواج الشعبي، لم ينعقد لأي زعيم في تاريخ مصر بعد سعد زغلول، بل إن سعدا خسر جزءا غير قليل من جمهوره، إثر موقفه العدائي من الحكومة التي تشكلت بعد تصريح 28 فبراير 1922 الذي أعلنت فيه بريطانيا اعترافها الجزئي باستقلال مصر وسيادتها، وكان ذلك يمثل بارقة أمل للمصريين بإمكانية تحقيق الاستقلال الكامل.

لنعد إلى منطق مقدمي البرامج في قنوات الصراخ اليومي. فهؤلاء لا يرون ذميمة في مصر إلا في عهد الجمهورية، ولا يرون أي فعل حسن، للجمهورية في كل تجربتها، بل إن الإصلاح الزراعي الذي نشأت فكرته في العهد الملكي كان اعتداء في منطق هذه البرامج، وكذلك التعليم المجاني الذي نادى به طه حسين، وكان السد العالي والتنمية والتصنيع وغير ذلك محاولات خاطئة.

 بل إن الحروب العدوانية التي شُنت على مصر، كان “الحق” فيها على عبدالناصر، فإسرائيل وبريطانيا وفرنسا وجدت نفسها مضطرة إلى خوض حرب 1956 وتل أبيب اضطرت إلى حرب 1967 ومن يقرأ ما كتبه الشيخ القرضاوي عن هذه الحرب الأخيرة، سيقول إن إسرائيل محقة في عدوانها. كل ذلك يُقال دون أن يرف جفن القائل، وكأن الهدف هو أن تترسخ في وجدان البسطاء والناشئة، فكرة أن جماعة “الإخوان” هي صاحبة مشروع الفردوس المُضيّع والعدالة، وأن “الخونة” العلمانيين أضاعوا الفردوس من شعوب الأمة، وأن العسكر، من عرابي إلى عبدالناصر، كانوا منبع الضلال!

كاتب هذه السطور، تابع الجزء الأول من شريط حلقة يوم الأربعاء 20 فبراير الجاري، من برنامج هجاء وتخوين مريرين. بدأ محمد ناصر مقدم البرنامج الحلقة بنحو عشرين دقيقة من التقريع العاطفي والدعاء بسوء الخاتمة والموت على المعصية، لفتاة أو سيدة تدعى سارة، كتبت على تويتر أنها سُرّت بإعدام المسجونين التسعة في مصر.

ولم يختم محمد ناصر تقريعه لسارة، إلا بالكشف عن اسمها كاملا ومكان عملها. وبالطبع، لا نُقر بحق إنسان في الشماتة بموت إنسان إعداما، لكن العرض كان فيه تركيز شديد على استشارة العواطف على النحو الذي لن يجدي نفعا.  ثم بدأ المبتدئ في السياسة والتاريخ حديثا، بمساعدة المعاونين في خلفية الشاشة، فروى للمشاهدين قصص بعض الطغاة والجواسيس ومآلاتهم.

 بدأ بالجاسوس إيلي كوهين، ورغم المادة الأرشيفية التي يتلقاها، لم يستطع تقديم الرواية الحقيقية مثلما يعرفها متوسطو الثقافة السياسية أو التاريخ. قال إن الجاسوس كوهين زُرع في قصر حافظ الأسد وكان من حاشيته، علما بأن الأسد كان وقتها ضابطاً منفيا في مصر والواقعة حدثت في عهد الرئيس أمين الحافظ، ولم تكن أصلا عملية الزرع في قصر الرئاسة، وإنما في وسط النخبة الأرستقراطية التي يختلط فيها المدنيون والعسكريون. ثم تناول أمر كل من معمر القذافي ونيقولاي تشاوسيسكو في رومانيا ولم يوفق في تقديم رواية صحيحة، لا بوقائعها الدقيقة ولا بمآلاتها السياسية!

نحن هنا لا نأسف لرداءة المعلومة. فبرامج التلفزة في كل مكان، تزدحم بالغث والرديء ويتدفق الكثير من الكلام القاصر. فما نأسف له، أن السجال الدائر في الإقليم، يسمم أفكار الناشئة في قضايا جوهرية، ويختزل التاريخ بطريقة مشوهة، وينكر على كل ذي فضل فضله، ويستمري التخوين واعتماد القصص السخيفة، وكل ذلك بشفاعة الخصومات الراهنة!

18