مقاييس مختطفة في الثقافة والإعلام

ألا يحق لنا أن نطالب اليوم، وأكثر من أي وقت آخر، بأن نعيد لكل مهنة اعتبارها، وأن نسمي الأشياء بأسمائها ونعطي كل ذي حق حقه.
الأربعاء 2019/02/27
الموسيقار عمر خيرت أعطى المكتبة العربية مئات الأعمال الموسيقية

في أيامنا العربية الجديدة ظهرت في لغتنا كلمات وصفات قديمة كثيرة أعطيناها معاني ودلالات جديدة مضافة إلى ما كانت تعنيه في السابق، ومنها، على سبيل المثال، الموسيقار والعلامة والإعلامي.

الموسيقار:

كانت صفة الموسيقار تطلق على كل من يحترف الموسيقى، عزفا أو تلحينا أو توزيعا، واليوم صارت لها دلالة جديدة عند استخدامها تمنح الموصوف بها مرتبة أعلى مقاما من الموسيقي.

ولا توجد في اللغة الإنكليزية، كلمة أو صفة موسيقار، الموجود فقط تمييز واضح بين العازف الموسيقي وبين المؤلف الموسيقي. فالأول  Musician والثاني Composer.

أما عندنا فقد أصبحت صفة (موسيقار) تطلق على من يستحقها، فعلا، وعلى من لا يستحقها. فعازف الآلة الموسيقية، مثلا، أو الملحن، صار هو الموسيقار، وأحيانا (الموسيقار الكبير).

والإنصاف والدقة يقضيان بأن تكون صفة الموسيقار من حق الذي يؤلف الموسيقى ويكتب الألحان لعشرات الآلات الموسيقية في الأوركسترا الواحدة، وقد يكون هو نفسه قائد الأوركسترا. ومنهم عمالقة عالميون، بيتهوفن وموزارت وشوبيرت وشوبان، وفي عالمنا العربي لا يمكن إطلاق هذه التسمية، بمعناها الجديد، إلا على قليلين، منهم سيد درويش ومحمد عبدالوهاب وعمر خيرت وفؤاد الظواهري وعمار الشريعي ومن هم في مستواهم.

ويُذكر هنا أن الملحن البارع محمد الموجي زار بغداد في أواخر الستينات فاستضافه مذيع عراقي وقدمه بصفة الموسيقار، فرد عليه، على الفور، قائلا: لا يا بني، أنا ملحن فقط، أما الموسيقار فهو سيد درويش ومحمد عبدالوهاب.

فسيد درويش الذي سبق زمانه وأنتج في عمره الفني القصير ما عجزت عنه أجيال وأجيال من تراث عظيم جديد مبتكر وغير اعتيادي. ثم جاء بعده محمد عبدالوهاب ليكون الثاني في الخلق والابتكار، تأليفا موسيقيا وتلحينا.

وعمر خيرت مثال آخر يستحق أن تطلق عليه صفة موسيقار لأنه أعطى المكتبة العربية مئات الأعمال الموسيقية التي تدخل ضمن باب التأليف الموسيقي لعشرات الآلات الموسيقية في القطعة الواحدة. والشيء نفسه يقال عن عمار الشريعي. أما الكبار زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد الموجي وبليغ حمدي وسيد مكاوي فهم ملحنون عظماء خلدتهم أعمالهم التي لا تفنى.

العلاّمة:

إن ما يقصده البعض من إطلاق لقب علاّمة على علماء عرب وعراقيين هو المبالغة في تعظيم علمه وإنجازاته. ولكن القليلين في التاريخ العربي يستحقون لقب علاّمة بدلا عن عالم. فالعلاّمة تعني كثير العلم الموسوعي Encyclopaedical.

ومنهم ابن سينا والبيروني وجابر بن حيان والرازي وابن رشد وابن الهيثم والفارابي والخليل بن أحمد الفراهيدي وأمثالهم من العلماء الموسوعيين الذين لهم باع طويل في أكثر من مجال من مجالات العلوم والفلسفة والآداب والفنون.

الإعلامي:

إن كلمة إعلام، في حقيقتها، تعني الإخبار ونشر المعلومة. وبهذا يصبح كل من يمتهن نقل الخبر ونشر المعلومة إعلاميا. إلا أنها اكتسبت، مع الزمن وتطور الاستخدام، معنى أوسع وأعمق وأعلى من مرتبة المذيع والصحافي، مهما كان مجيدا وناجحا في المهنة.

فهو ذلك الذي يتميز بتعدد الخبرات والمهارات الإعلامية وتنوعها في أكثر من وسيلة من وسائل نشر المعلومة. ويمكن أن يقال عنه إنه الموسوعي الذي يبرع في التخطيط والتصميم والإدارة لأجهزة إعلام متنوعة، صحافية وإذاعية وتلفزيونية، وهو الذي يقود عمل المخرج والمذيع والصحافي، ويرسم لهم خطط العمل اليومي والاستراتيجي معا.

فالمذيع، مثلا، لا يتعدى دوره تلاوة ما يُكتب له، وكذلك المحاور الإذاعي والتلفزيوني. وبعض هؤلاء لا تتعدى خبراتهم ومعارفهم حدود مهنتهم بكثير.

ولا ينقص قدر المذيع حين نطلق عليه صفة المذيع، وعلى الصحافي صفة الصحافي، وعلى المخرج صفة المخرج. ومن مساوئ زمن الأقمار والإنترنت كثرة الإذاعات والفضائيات والمواقع، فقد جعلت سهلا على طارئين متطفلين أن يتسللوا إلى عالم الإعلام، وهم بلا خبرة ولا مؤهلات.

واحدة تدير حوارات في فضائية عراقية صرخت بوجه أحد ضيوفها ومنعته من إكمال فكرته، وحين حاول مواصلة الحديث صاحت به مؤنبة: لن أسمح لك، لا تكمل. وآخر يسأل ضيفه ولكنه لا يدعه يرد، بل يبادر إلى طرح سؤال آخر، أو يقاطعه في منتصف جوابه ويرد هو بنفسه على السؤال عارضا رأيه الشخصي، مخالفا ضيفه بعناد ووقاحة.

ومذيع عراقي آخر تضخمت فيه الأنا بشكل غير طبيعي وغير محدود، فصار يتحدث بصيغة الأنا. أقول أنا، (ويذكر اسمه الكامل)، وأرى أنا، فلان الفلاني، (ويذكر اسمه الكامل)، وضيفه ينتظر نهاية خطابه الطويل.

لم يفعلها قبله أي واحد من عظماء المذيعين، أمثال دان راذر، أو تيد كابول، أو لاري كنغ، أو باربارا والتر، مع العلم بأن أي واحد من هؤلاء كان عشرات الملايين حول العالم تنتظره بشغف واحترام.

ألا يحق لنا أن نطالب اليوم، وأكثر من أي وقت آخر، بأن نعيد لكل مهنة اعتبارها، وأن نسمي الأشياء بأسمائها ونعطي كل ذي حق حقه؟

18