مقامات صوفية وذاكرة مترعة بالكوابيس

متحف بول فاليري في سيت الفرنسية يحتضن أعمال الفنان الفلسطيني بشار الحروب الذي يسعى من خلالها إلى استدراجنا إلى صلب المناخ الكابوسي للوجود بعيدا عن الأليف.
الثلاثاء 2020/03/17
مقامات صوفية جديدة

بين عالم مقدس يسكنه الهدوء الخلاق والأسرار الدفينة لسر الكون، وبين عالم مضطرب مشوش مليء بالحروب والصراعات، يؤسس الفنان الفلسطيني بشار لحروب أعماله الفنية التي بدأ عرضها في متحف “بول فاليري” بسيت منذ أيام، كاشفا عن مزيج فني غريب بين المتقابلات.

يقترح الفنان الفلسطيني بشار الحروب في المعرض الذي يحتضنه متحف “بول فاليري” بسيت (فرنسا) من الـ12 من مارس الجاري إلى الـ31 من ماي القادم، تفاصيل موضوعية لها عناوين “مقام صوفي”، “أساطير”، “لا مكان”، و”شاشة صامتة”، بقدر ما يستعرض مدوّنة بصرية ومفاهيم وأسئلة تستمد نسغها الحارق من أديم الأرض المنتمي لها، الأرض المحتلة، المأخوذة من أحلام أصحابها، هو الفلسطيني المولود في القدس، المنحدر من الخليل، والمقيم برام الله، والعابر لمجمل فضاءات اللجوء والشتات، بألوانها وكتلها الهاربة وضيائها، وأشجارها وجدرانها الراسخة في العمق، وفي طبقات الذاكرة، وفي ثنايا الجسد المترحل.

استدراج العودة من النسيان، واستنبات البقاء من الرحيل المؤبد، ومجابهة القسوة والمحو والنفي المسترسل للأهل والمحيط وزمن السكينة، ثم الصمت والكوابيس المقترنة باللاّمكان. معجم متناسل يعيد بشار الحروب تركيب تعابيره وخرائطه المعنوية، بصيغ أسلوبية شتى، تمزج بين الرسم والتصوير الزيتي والمائي والكولاج، والمنحوتات المعاصرة، والمنشآت…، مثلما أعاد تركيبها قبله رسامو التغريبة الفلسطينية وسينمائيوها وروائيوها عبر أزيد من نصف قرن.

المقام الصوفي

يلفت الانتباه، منذ الوهلة الأولى، في المعرض، ذلك التقابل بين مجموعتي “مقام صوفي” و”لامكان”، الذي يختصر حكاية التشكيلات البصرية المعروضة، ثمة حلقة مرتبكة لدور صغيرة بيضاء ومذهبة، مصوغة من رخام صناعي، تلتفّ حول بعضها في شبه استدارة، وتتحوّل فيها كتل البناء المختصر إلى ما يشبه كائنات في حلقة ذكر، ألوانها المراوحة بين الأبيض والمذهب تجلو ما يسعى إلى إخفائه الصوفي من رغبة في التطهر من العرضي والتشبث بالرسوخ في الأرض، تلك قيمته التي لا توزن بالذهب، وثراؤه العفيف والمستغني، بالبياض والبساطة والضمور، ليس عبثا أن يكون من معاني لفظة “المقام” العربية “الخلود” وأن تسمى “الآخرة” بدار المقام، والذاهب إليها هو “الراحل”، وما الفلسطيني في العمق إلا ذلك المنذور للرحيل والمتشبث بالمقام، إنها فكرة الانتماء العصيّ على المحو والتلاشي.

وفي تركيبة ثانية من هذه المجموعة تطالعنا لوحات مصوغة بتقنيتي الكولاج والصباغة المائية للمقامات الصوفية، لا تتجلى منها إلا الواجهات المزخرفة بموتيفات السيراميك العربي مع إيحاء ظل ذهبي، أبواب الواجهات المصغرة للمقامات تلوح كثقوب مفاتيح الدور القديمة، ست عشرة قطعة (لوحة)، وست عشرة كوة مفتاح لولوج عالم البقاء والرحيل المؤبد.

تركّب المنشأة – المقام في صيغة تسترسل في إخراج الداخل اللامرئي المنطوي على النفيس والبسيط المستكفي بقناعته المعنوية (يقول المثل العربي “القناعة كنز لا يفنى”)، هذان العملان هما نتاج تولع ببناية الصوفية وما تنطوي عليه من رموز وذاكرة، ومن خيال، لكنها أيضا حصيلة ما يوحي به سكّانها من انتماء لعقيدة وأصل، مريد المقام مرتبط بسر البنيان لا بكتلته، لهذا كانت المقامات في لحظات كثيرة من التاريخ الإسلامي محتضنة لحركات المقاومة للاحتلال الطارئ وللتسلط الغاشم.

تصوير الذاكرة

في مقابل منشأتي “المقام الصوفي”، ترتصف لوحات إكريليك بالأبيض والذهبي، تبدو وجها مناظرا للمقام، هي صورته الطباقية، لنقل هي المقام في حال الانتفاء أو “اللاّمقام”، لا جرم أن يسمها الفنان بـ”اللامكان”، ذاك هو حال مخيمات اللجوء الفلسطينية، حيث لا بيت، “تحت السماء الأخيرة”  بتعبير إدوارد سعيد.

 إنه بالتحديد “مأوى” من اقتلع وصودر بيته وشجره وأشياؤه الصغيرة، وبات رهين المؤقت والعارض والمرتجل، أطفال في أوضاع لعب، وتنقّل، وانتشار مرح، في مساحة بلا ملامح، يرفعون علامة النصر، أو يحمل بعضهم بقجة متاعه الصغير والنفيس، ثم دور مرتجلة، بنيت لالتقاط النفس، والانتظار، كل الكائنات في الصور بيضاء بينما صبغت حوافها وتخومها بالذهبي، النعلان وعلبة الكارتون، بُقع الأملاك المترحلة، الأثمن من الذهب، الحمار الصبور، ثم إطار اللوحة، ثلاث لوحات تطلّ منها الملامح والأجساد من عمق البياض المؤطر بالذهبي، بينما ترسم الدور البيضاء المنتشرة للمخيم وأطفاله في عمق الذهبي الأخّاذ.

 يتجلى اللون المشع للنفيس والنادر بوصفه “حدّا”، امتدادا للإطار الذي اقترن منذ بداياته بهذا اللون، هي الحياة في حدها الأدنى، المكتفية بالبقاء على قيد حلم العودة، حيث ينتفي الامتداد والتفاعل مع المحيط، ويتحوّل البيت المجازي إلى معزل بجوهر لعبي، وتتلاشى الطبقات اللونية للأجساد والأردية، فتتجلى الكائنات المرسومة بوصفها استعارات للمحو، أشباح لذوات شكلية في حال ترحّل دائم، انغرست كياناتها الحية في غير مقاماتها الأصلية.

مشاهد من واقع مرعب
مشاهد من واقع مرعب

انتفاء المكان، وتلاشي السكينة، وتبدّد المحيط الأليف، واسترسال الرحيل، تعيد تشكيل تفاصيل الاقتلاع الجحيمية للفلسطيني، بما هي صراع مع الوعي بالإقامة والتنقل والتملك، يمكن تخطي مأساويتها بالفطرة الطفولية وبالبياض، تلك الطاقة القادرة وحدها على منح النفس للمؤقت الطويل، ورفع شارة النصر في وجه جبروته، هكذا تهيئ هذه المجموعة العين لتمثّل أعمال مجموعة تالية عنونها بشار الحروب بـ”شاشة صامتة”، فالصمت بياض بمعنى مجرد، هو وجهه في مساحة الزمن والمجتمع، هو محو ونفي قصدي لتبادل المفردات والرموز، تتشكل المجموعة من اثنتي عشرة لوحة، تصوير بباستيل زيتي وإكريليك وفحم على قماش، لأجساد شوهها الهزال، شبيهة ببقايا أجساد ضحايا المجاعات، حشود كبيرة متلاحمة، أفراد، وزوج مع طفل، ولوحات لأربعة أشخاص أو خمسة، في وضع وقوف لا ينتهي، أحدها يحلق في السماء، يوحدها النظر الساهم في أفق منعدم، في لاشيء، وأفواه فاغرة في مجملها، قليل منها مزموم، حالة خرس قهري، يمتد من اللسان إلى الأعضاء المستكينة لسقمها وانتفاء نضارتها، دوائر فراغ سحيق تسكن العينين والجوف والركب، وتحوّل الكائنات إلى شبه هياكل هاربة من محرقة.

يبدو بشار الحروب وكأنما يصوّر تفريعات يومية لذاكرة فجائعية لم تُطوَ، وباتت قدرا مسترسلا، في نسخ غير متشابهة، بيد أن التشابه هو ما سيسم مصير الضحايا، المهجّرين واللاجئين إلى “لامكان”، فقصص المرحّلين، تاركي كل شيء هناك، تأبى إلا أن تتكرر على الدوام، من هنا يمكن تمثل الرغبة في بناء النسخ الجسدية المشوهة والمتحولة التي لن تكون بلون البشرة حتما، وإنما بترددات قزحية تحاكي طبقات الإحساس، لقد لوّنها الخروج من الطبيعة السوية والتطبيع مع الفقدان، خسارة كل شيء إلا الذاكرة، تلك الساكنة في الجماجم الناتئة المرعبة والخرساء.

ولم يكن غريبا أن يعنون الفنان مجموعته الأخيرة بـ”أساطير”، كأن ما بعد الانتفاء وضع مهيأ باستمرار لإنتاج أوهام وكوابيس بجوهر أسطوري عصيّ على الفهم. تتكون مجموعة أساطير من اثنتي عشرة لوحة، تصوير بألوان حبرية على ورق، لكائنات غامضة، ثيران أو تماسيح أو تنانين، أو أفاع أو طيور أو ذئاب، أو بشر، لا نميّز شيئا من هيئات الوحوش المصورة بمزيج الأحمر والأزرق والبنفسجي والأسود، تتجلى الألوان داكنة، مائلة في عمومها إلى السواد، نلمح لدى أغلبها مخالب وأنيابا وقرونا، وكأنها قادمة من تفاصيل حكايات شعبية عن الغيلان والجن والأجساد المتحولة، يهيأ للمشاهد أنه بإزاء رسومات أطفال، احتل دواخلهم العنف اليومي، وأخرجوه في صور وحوش مرعبة، قدّت من لهب ودم.

هكذا يسعى الفنان الفلسطيني بشار الحروب في مجمل أعمال معرضه، لأن يستدرجنا إلى صلب المناخ الكابوسي للوجود بعيدا عن الأليف والمستقر والمملوك، عرضة للنسيان، والتآكل، يستهدف عبر مجموعات المعرض الأربع: المستهلة بـ”المقام الصوفي” والمختتمة بـ”أساطير”، باختياراتها الأسلوبية المتقاطعة والمتنائية في آن، وبتقنياتها المختلفة وموضوعاتها المتساندة، أن يقول مجازات الانتفاء ويحاكي مقاماته، وما يحركه من تطلع إلى تجاوز قدر المعابر، واستعادة وعي “المقام” وما يتصل به من ذاكرة وخيال، وقدرة على العيش السويّ، وتصالح مع الجسد والأرض ومع السماء أيضا.

15