مفارقة عجيبة تحكم علاقة السلطة السياسية بالإعلام في الجزائر

يظهر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون اهتماما لافتا بعلاقته مع وسائل الإعلام المحلية، لكن هذا الأمر لا يترجم بشكل إيجابي على أرض الواقع مع انحسار حرية التعبير في البلاد، مقارنة بحقبة سلفه الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.
الجزائر - تبرز مفارقة عجيبة في العلاقة بين السلطة السياسية في الجزائر وبين الإعلام خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ففيما كانت القطيعة سائدة بين الطرفين خلال حقبة الرئيس الراحل بوتفليقة، كانت مساحة الحرية أوسع، ولما أصبحت أكثر ودية تراجعت فرص التغريد خارج سرب السلطة، رغم إيحاء الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون بكسر تقليد سلفه، وإرساء تقليد جديد يقوم على الانفتاح.
استقبل الرئيس الجزائري في قصر المرادية عددا من مديري ومسؤولي المؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة، وكان اللقاء هو الأول من نوعه، قياسا بالطابع الودي الذي أحيط به، حيث كان فرصة للاستماع وتبادل الأفكار والتصورات حول واقع ومشاكل القطاع، ومختلف الملفات والقضايا المختلفة داخليا وخارجيا.
واللافت هو خروج اللقاء عن الطابع الرسمي والمهني الذي ميز اللقاءات الدورية التي جمعت الرئيس تبون بمختلف وسائل الإعلام المحلية، ولذلك جاءت التغطيات مقتضبة سواء في وسائل الإعلام أو في المنصات الرسمية التابعة لرئاسة الجمهورية، حيث تم الاكتفاء ببيان رسمي لم يتعد حدود بث الخبر فقط.
وذكرت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية في فيسبوك أن “رئيس الجمهورية السيد عبدالمجيد تبون استقبل مديري ومسؤولي بعض وسائل الإعلام الوطنية، حيث استمع إلى الانشغالات المهنية والاجتماعية للأسرة الإعلامية، منوها بالدور البارز الذي تقوم به الصحافة في الدفاع عن المصلحة الوطنية”.
◙ السلطة الجزائرية تبحث عن مؤسسات إعلامية قادرة على التأثير وتوجيه الرأي العام والتسويق لصورة إيجابية
وأضافت “شكل اللقاء فرصة، اطلع من خلاله السيد الرئيس على مقترحات مهنيي الصحافة لتحسين أدائها من أجل المساهمة الفعالة في الجهود الوطنية، التي تبذل في كل المجالات والقطاعات. وتناول اللقاء أيضا بالنقاش المستفيض، مختلف المسائل الوطنية المرتبطة مباشرة بانشغالات المواطنين، معـرجا على القضايا الإقليمية والدولية”.
ومنذ اختفاء أو انضمام عناوين صحافية إلى عباءة السلطة تحت ضغط الأزمات المالية وحصار الإعلان الحكومي، لم تعد قيم حرية الإعلام والتعبير والاختلاف السياسي والأيديولوجي تطرح من طرف المهنيين أو منظري الصحافة الجزائرية. وتميزت هذه العناوين بخطها التحريري الناقد للسلطة، منذ تأسيسها في مطلع تسعينات القرن الماضي، لكن الوضع اليوم مختلف.
ولم يعد القارئ الجزائري يصدق أن صحيفة “الوطن” الناطقة بالفرنسية، التي ظلت تلتزم بخط تحريري معارض للسلطة طيلة العقود الثلاثة من نشأتها، هي صحيفة الوطن التي يصادفها في الأكشاك خلال الأشهر الأخيرة، حيث صارت مهادنة للسلطة أكثر من الصحف الحكومية نفسها التي أوجدت لهذا الغرض على حساب الخدمة العمومية.
وطيلة تسعة عشر عاما لم يلتق الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة بصحافة بلاده ولم يمنح أي تصريح لأي من الصحافيين الجزائريين، بمن فيهم من كانوا يصنفون ضمن دائرة الأصدقاء، وما نقل عنه لا يتعدى حدود اللقاءات الهامشية أو الجلسات الضيقة، وهي قطيعة أراد الرئيس تبون كسرها منذ قدومه إلى قصر المرادية في أواخر العام 2019.
وعلى مدار نحو أربع سنوات من رئاسته للبلاد، أجرى الرئيس تبون العشرات من اللقاءات مع وسائل إعلام محلية وبشكل محدود مع وسائل إعلام أجنبية، وبدا أن الرجل يريد فتح عهد جديد بين المؤسسة الأولى في الدولة وبين السلطة الرابعة، بغية إضفاء انطباع مغاير على المرحلة السياسية الجديدة، فيما يعرف بـ”الجزائر الجديدة”، وبين “الجزائر القديمة” مجازا.
غير أن تعامل السلطة مع الإعلام في الحقبتين السياسيتين، أفرز مفارقة عجيبة، ففي عهد القطيعة بين رئاسة الجمهورية والإعلاميين كانت مساحة الحرية أكثر، وكان بالإمكان العثور على أكثر من خط افتتاحي في المشهد الإعلامي، بينما خلال عهد التواصل والعلاقة الودية تقلصت مساحة الحرية، وبإمكان القارئ والمتابع أن يكتفي بوسيلة إعلامية واحدة ووحيدة لفهم الوضع العام، بدل أن يتعب نفسه في تصفح عدد معين من الصحف والمواقع ومشاهدة التلفزيونات.
ودأب الرئيس الجزائري على إجراء لقاءات مع مختلف الفعاليات السياسية والمدنية، حيث كان تنظيم رجال الأعمال، والأمين العام الجديد لأعرق النقابات العمالية (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) عمار تاقجوت آخر ضيوفه في قصر المرادية، ولذلك لا يستبعد أن يكون لقاء الرجل مع مديري ومسؤولي مؤسسات إعلامية جزءا من تلك السلسلة، ولا شيء فيها يمكن أن يكون ذا خصوصية معينة.
◙ بوادر تخمة المشاكل التي تعيش على وقعها غالبية المؤسسات الإعلامية الجزائرية ظهرت في آخر لقاء دوري جمع الرئيس تبون بوسائل إعلام محلية
بوادر تخمة المشاكل التي تعيش على وقعها غالبية المؤسسات الإعلامية في البلاد، ظهرت في آخر لقاء دوري جمع الرئيس تبون بوسائل إعلام محلية منذ عدة أسابيع، لما انحرف الحديث إلى طرح انشغالات مهنية واجتماعية على مسامع الرئيس، ومذاك يكون قد تقررت ضرورة الالتفات إلى المسألة في لقاء خاص.
والأهم بالنسبة للسلطة القائمة هو تسويق صورة لعلاقة ودية بين الرجل الأول في الدولة وبين المؤسسات الإعلامية، حتى ولو أن المسألة طرحت في أكثر من صعيد ومستوى ولم يتم التكفل بتلك المشاكل بسبب تراكمها وتعقدها ودخول أكثر من طرف على الخط، أو أنه ليس من الضروري أن تتكفل الرئاسة بحل مشاكل القطاع وإلا ما الجدوى من بقية المؤسسات والهيئات، كمديرية الإعلام في الرئاسة ووزارة الاتصال والمديرية العامة للنشر والإشهار.
وتبحث المؤسسات الإعلامية الجزائرية عن شفافية وعدل في توزيع الإعلان الحكومي في ظل الاحتكار الذي تمارسه السلطة على مصدر تمويلها، فيما تبحث السلطة عن مؤسسات إعلامية قادرة على التأثير وتوجيه الرأي العام وتسويق صورة إيجابية، لكن المفاتيح الحقيقية لحل الأبواب تبقى ضائعة، في ظل غياب المهنية والمسؤولية لدى الفاعلين.