مفارقة العلمانية

كلما سمع الإسلاميون المعاصرون كلمة العلمانية يقفزون هلعا ويتمثلون حال المسلم الورع في يثرب عندما كان يتحسّس الخطر على مصير الرسالة النبوية، ويصرخ معلنا عزمه على مواجهة الكُفر البواح. لكنّ أيّا منهم، لو عاش في الهند مثلما عشت، أو قرأ شيئا من تاريخها السياسي، سيعرف كم كانت معركة نهرو مع الأصوليين الهندوس مُضنية، وكانت خشبة النجاة للمسلمين وضمانة استقلال قضائهم الشرعي، وبوصلة أوقاتهم في المعاملات والعبادات. بل لو إن ضيقي الأفق، لو قرأوا ما كتبه مؤسسو المنحى السلفي الأصولي، الذين رأوا أن الدين السماوي لن يتطابق مع الدولة الأرضية. الأول مُنزّه والثانية خطّاءة، ولا يتطابقان؛ لأدركوا أن الكُفر ومجافاة الشريعة شيء، والعلمانية شيءٌ آخر، فيها تنقية حقيقية لمناخات التعبد والسلوك القويم، كلٌ حسب فقهه وشريعته.
أينما وُجد التعدد الديني والثقافي والقومي واللغوي، لا مناص من الأخذ بما رآه نهرو خيارا لا بديل له. وما ينطبق على الهند كبلد يزخر بكل أنواع التعارضات والخصائص المتنوعة للمجموعات السكانية؛ ينطبق على غيرها من الكيانات الصغيرة التي يهيمن فيها دين واحد، على الأقل لأن مصالح السكان في تجمعاتهم الصغرى، المناطقية والفقهية، لا بد أن تتعارض داخل الدين الواحد، وتحركها مطامح فقهاء السوء وطالبي الإمارة. فالسياسات التي يتولاها ممتشقو أيديولوجيا دينية، إقصائيون، ينزعون إلى استقلالية كيانات صغرى قوامها المريدون، وتمييزها عن سائر المواطنين، وهذا مقتل الكيانات السياسية، الكفيل بخلق متواليات التشطير، ليس للدولة وحسب، وإنما للمنطقة والحارة والجماعة!
كان نهرو قد التقط المغزى الخطير للهيمنة الأصولية الهندوسية، ورآها جلابة للتذابح في ما بينها قبل أن تتذابح مع أتباع الديانات الأخرى، وتنقضّ على المسلمين. وهذا ما حدث في أواخر الحقبة الاستعمارية في الهند، على أيدي التشكيلات القومية الهندوسية، مثل “منظمة المتطوعين القوميين آر.أس.أس″ و”مهاصابحا” اللتين جعلتا إقصاء المسلمين أو إبادتهم هدفا أخيرا. لذا كان حزب “المؤتمر” بقيادة نهرو، يكابد تلك التوجهات التي تسللت إلى صفوفه وشقّت الحزب إلى جناحين: آر مقابل أو.
قال الرجل “إن مفتاح التسامح هو حياد الدولة في الشؤون المتعلقة بالدين والعقيدة، وهذا لا يعني تثبيط الدين أو معاداته، بل أن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الموروثات الدينية والمواطنين”.
واستطرد بصراحة “نسمي دولتنا علمانية، وهو لفظ قد لا يكون مناسبا تماما، إلا أننا نستخدمه لعدم وجود ما هو أفضل منه، لحماية حرية الضمير وفتح المجال الحر للجميع شرط عدم التدخل في المفاهيم الأساسية للدولة أو الاستقواء بها على مُكوّن آخر”!.
اللافت الذي لا يخلو من طرافة، أن مجاميع المسلمين في مناطقهم وقومياتهم المختلفة ولغاتهم في الهند، وهؤلاء يمتازون بالنقاء والورع كما شاهدت في الهند، يتحسّسون الخطر كلما انزاحت الدولة قليلا عن العلمانية. فهم يستأنسون بها، ويطمئنون على رؤوسهم ومساجدهم واستقلال قضائهم الشرعي!