معنى أن يتسابق العالم نحو أبوظبي

أن تودع دولة ما رئيسها أو أن تنتخب رئيسا جديدا، فالأمر ممكن الحدوث، وقد يجد كلّ الاهتمام من بعض الدول أو بعض الاهتمام من الكثير من الدول، ولكن أن يتحول إلى مصدر اهتمام عالمي بالشكل الذي يجري منذ أيام بعد وفاة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وانتخاب أخيه الشيخ محمد بن زايد رئيسا لدولة الإمارات، فالموضوع يتعلق بظاهرة استثنائية فعلا، وهي تحتاج إلى الوقوف عندها لتدبّر معانيها ودوافعها وخلفياتها.
شهدت أبوظبي سباقا عالميا من رؤساء دول وحكومات ووفود رسمية وشعبية للتقدم بالتعازي في رحيل الشيخ خليفة وبالتهاني بمناسبة انتخاب الشيخ محمد بن زايد، وكان على دوائر البروتوكول والمراسم والدبلوماسية أن تتجند بشكل غير مسبوق، وأن تضع نفسها في حالة طوارئ واستنفار لاستقبال قادة وزعماء وممثلين لدول من مختلف أرجاء البلاد، ومن أمم وحضارات وثقافات متعددة، ومن محاور متناقضة في ما بينها ولكنها مجتمعة على العمل من أجل توطيد علاقاتها مع الإمارات.
تلقت الإمارات أصدق إشارات التعاطف والمواساة في وفاة الشيخ خليفة وأصدق عبارات التهنئة بتولي الشيخ محمد بن زايد منصب الرئاسة، من واشنطن وموسكو وبكين، وتدافع إليها القادة العرب والأوروبيون والآسيويون ومن أستراليا وأفريقيا والأميركتين، وزارها الإيراني والإسرائيلي والفلسطيني والقطري والسوري والعراقي، وتسابق نحوها التركي واليوناني، والسوداني والمصري والإثيوبي، والمغربي والجزائري، والهندي والباكستاني، والصيني والياباني، فإذا بالجميع يجتمعون حول هذه النظرة الإيجابية والرغبة الجامحة والجارفة في توطيد العلاقات مع الدولة الصاعدة في بلاد الخليج وأقصى الشرق العربي، والتي ورغم أن عمرها لم يتجاوز الخمسين عاما إلا ببضعة أشهر، إلا أنها استطاعت أن تأتي بما عجزت عنه دول أخرى قد تكون أوسع في الجغرافيا والديموغرافيا وفي حجم الثروات وأعرق من حيث البناء المؤسساتي، إلا أنها لم تستطع أن تصل إلى ما وصلت إليه الإمارات.
بالتأكيد أن الدول ليست لها مشاعر كتلك التي يعبّر عنها الأشخاص، والحكومات تباشر مهامها من منطلقات المصلحة العامة لدولها وشعوبها، وعندما يتسابق العالم نحو عاصمة ما في إطار دبلوماسية المجاملة، سواء في الحزن أو في الفرح، فذلك يعني أن هناك مصالح إلى جانب المشاعر، وهناك حسابات تقود إلى التقرّب من مسؤولي تلك الدولة، وهو ما حدث في الإمارات، فالمجتمع الدولي بكباره وصغاره، وأغنيائه وفقرائه، وشرقه وغربه وجنوبه وشماله، وبالمختلفين فيه مشاريع وسياسات، والمتناقضين فكرا وسلوكا وطموحات، اتجه نحو وجهة واحدة هي أبوظبي، تعبيرا عن الأهمية القصوى التي باتت تحظى بها دولة الإمارات العربية المتحدة لدى الفاعلين الأساسيين والثانويين في عالم اليوم، وعن رغبة مختلف الدول والحكومات في تمتين عرى التعاون والتضامن والصداقة معها كقوة موثوق بها ولها تأثيرها البالغ على مسارات الأحداث المالية والاقتصادية والسياسية إقليميا ودوليا.
استطاعت الإمارات أن ترتبط بعلاقات صداقة وثيقة مع كل دول العالم تقريبا، وهي اليوم أبعد من أن تكون محسوبة على هذا المحور أو ذاك،
حتى من كانوا بالأمس القريب يبدون العداء للدولة أو يحرضون على قادتها ورموزها، أدركوا أنه من غير الممكن الاستمرار في عزلتهم، وانضموا إلى صفوف المتعاطفين مع الإمارات، والساعين لدعم أواصر العلاقة معها.
إن تلك المشاهد ليست وليدة الصدفة كما يعتقد البعض، وإنما هي نتاج رؤية استراتيجية وقراءة واقعية للتحولات العالمية وسياسة براغماتية تم اعتمادها في تحديد مسارات العلاقات الخارجية والتعاون الدولي، وقد حددها الشيخ محمد بن زايد منذ عقدين من الزمن، وجعل منها منطلقا لتحقيق التوازن في العلاقات مع مختلف العواصم الكبرى على أساس المصلحة الوطنية العليا لبلاده وضمن عقيدة مرجعية ترفض الاصطفاف التلقائي ضمن أو وراء هذا المحور أو ذاك، وتجعل من التسامح والحوار والسلام مواثيق إنسانية لا غنى عنها من أجل عالم يتسع للجميع وينبذ الكراهية والتطرف والعدوانية والتلاعب بمصالح الدول والشعوب والمجتمعات.
استطاعت الإمارات أن تخطو خطوات عملاقة في مجالات التنمية المستدامة، وهي اليوم واحدة من أهم مراكز العالم المالية والاقتصادية، وتعتبر واجهة حقيقية للمستقبل بخصوصياته المتعددة، ولا تكاد توجد دولة كبرى أو صغرى لا تحتاج إلى التعاون معها على جميع الأصعدة، وهذا يعني أنها استفادت من مقدراتها ومن موقعها الاستراتيجي ومن الإرث الذي تركه لها الشيخ زايد ومن رؤية الشيخ محمد بن زايد وأخيه الشيخ محمد بن راشد وبقية الحكام في التحول إلى قوة قادرة على فرض شروطها في علاقاتها الخارجية دون الخضوع أو التبعية لأي دولة أخرى.
وعندما كان لا بد من موقف جريء من سياسات واشنطن اتخذته أبوظبي، وعندما رأت في السلام خيارا استراتيجيا لم ترتبك لحظة في التوقيع عليه، وعندما قررت الدخول في تحالف مصيري مع السعودية ضد قوى البغي والعدوان، قدمت الدماء عنوانا له في ساحات المواجهة، وعندما آمنت بالتسامح بين الثقافات والحضارات كانت في صدارة مجسّديه على أرض الواقع ومحصنيه بخوض صراع حقيقي مع جحافل التطرف والإرهاب والواقفين وراءها سرا وعلانية.
لقد استطاعت الإمارات أن ترتبط بعلاقات صداقة وثيقة مع كل دول العالم تقريبا، وهي اليوم أبعد من أن تكون محسوبة على هذا المحور أو ذاك، ويكفي أن نقرأ مواقف واشنطن وموسكو وبكين وباريس ولندن وبرلين، وأن نتابع ما قالته دمشق وطهران وأنقرة وتل أبيب وغيرها من العواصم، لندرك طبيعة هذا المشهد اللافت والمبني على أساس واضح وهو أن الدولة القوية هي تلك التي تمتلك قرارها، وهي التي تستطيع أن تفرض استقلالية قرارها وجرأة موقفها وأهمية دورها، وهي التي تجعل العالم يتسابق نحوها في الضراء كما حدث مع وفاة الشيخ خليفة، وفي السراء كما هو الأمر بالنسبة إلى انتخاب الشيخ محمد بن زايد، ليسجّل حضوره في سجلات دبلوماسية المجاملة، وهو ما لا يحدث عادة إلا في حضرة الكبار دولا وأفرادا.