معلم آخر يترجل

الأحد 2016/03/20

في مدينتي، كنت طفلاً وربما في بداية مراهقتي، حين كانت رفوف مكتبة “الدار الوطنية” تتصدّرها ترجمات جورج طرابيشي، لا سيما فرويد، هكذا عرفته مترجمًا أوّلاً أكثر منه ناقدًا ومفكرًا، ولكن قراءتي لمشروع محمد عابد الجابري “نقد العقل العربي” والتي أخبرني صديقي السودانيّ الذي أعارني الجزء الأول “تكوين العقل العربي” أنّ “من يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”. لم أكن أعلم أنها تعود إلى جورج طرابيشي، التي كتبها ضمن مقالته الاحتفائية بالكتاب.

ترك الجابري فيّ سؤالاً، وعدم قناعة، في بعض طروحاته، لكنني خلتها نتيجة طبيعية لأنّ ما طرحه يمسّ تكويني الثقافي والمكاني، فحاولت البحث، على الرغم من أن العيش في جنوب الكرة الأرضية يخلق صعوبات جمة للحصول على كتب عربية، ولكن الإصرار لا بدّ له أن يحدث شرخًا في العزلة التي كنت أعيشها، وحين وصول “نقد نقد العقل العربي، نظرية العقل” شعرت وكأني وضعت يدي على كنز معرفي، وكان الكتاب مغريا لقراءة مشروع طرابيشي، الذي وضع يديّ على أجوبة أسئلة طالما أرّقتني.

لا أظنني أعجبت بكتاب هو ردّ على كتاب آخر، مثلما أعجبت بمشروع جورج طرابيشي في ردّه على مشروع محمد عابد الجابري، فهذا الكتاب لم يعلّمني قراءة الأخير جيدًا بلا خداع وبلا انبهار، بل تعلمت أن القراءة فنّ صعب للغاية، وأن كثيرًا من الكُتّاب يخدعون حتى أساتذتهم ومشرفي أطروحاتهم، ونقّاد منجزهم، وأن القراءة الصحيحة، تبرز الخيانة التي مارسها ويمارسها كثير من المثقفين، بينما هم أبطال في المخيّلة الشعبية، ومن رموز النخب المثقفة الملتزمة بقيم وأخلاقيات عالية، كثيرًا ما تَبَجّحوا بها.

جورج طرابيشي، المسيحي الذي فَكَّكَ المنظومة الإسلامية، بوعي ومسؤولية مثقّف، يؤمن أن الهوية العربية الإسلامية، هويته الكُبرى، وأن مصير هذه الأمة وهذه الثقافة، تهمه، وتشغله وتؤرقه، وأن الالتزام الحقيقي، في نقدها وتفكيكها ودراستها وتحليلها، وتعرية ما أصابها من وهن وخرافة، واجب الجميع ومسؤوليتهم مهما كانت مرجعيّاتهم العقائدية والإثنية والقومية؛ حتى أن شعورًا تملّكني وأنا أقرأ “نقد نقد العقل العربي” بأن هذا المسيحي، له غيرة على دين الغالبية العظمى من العرب، أكثر من معظم مسلميه، على الرغم من اعتراف الراحل الكبير بأنه خرج من المسيحية، وهذا نادرًا ما نلمسه عند مَن وجدوا أنفسهم ضمن هويات صُغرى.

الكتب الجيدة حقًّا هي التي تدفعك إلى تخوم جديدة من المعرفة والأسئلة، وتغريك بالبحث والتأمل، وهو ما وجدت نفسي عليه وأنا أقرأ مشروع جورج طرابيشي، فقرأت عن الفلاحة النبطية لابن وحشية السرياني السوراني (سوران، شمال شرق العراق)، وازداد يقيني بِمَدَنيّةِ اللغة العربية بحسب طرح طرابيشي، لا بصحراويّتها بحسب طرح محمد عابد الجابري، ليتضح لي أكثر عبر القراءة والبحث والتأمل، فالنقوش العربية في معظمها وُجدت في مناطق الوفرة، أي مناطق المياه والزراعة والمدن القديمة، وأما إعمال العقل في اللغة العربية، وطبيعتها، والتي لا يمكن أن يبتكرها صحراوي، لما تحويه من تعقيد في بنائها وثراء في مفرداتها ودقة في دلالاتها، وهندسة في اشتقاقاتها، فبحسب معرفتي المتواضعة، أن اللغة العربية، أكثر اللغات تحوي تسميات للكتابة وأَنواعها وصفاتها، وهذا يتناقض تناقضًا تامًّا مع ما طرحه المفكر محمد عابد الجابري، في نظريته “الأعرابي صانع الحضارة العربية الإسلامية”.

بل يمكن القول إن “نقد نقد العقل العربي” وهو يثبت مرجعيات فلاسفة ومفكري ومؤرخي وكُتّاب اللغة اليونانية، وغالبيتهم بحسب المفكر جورج طرابيشي، ليسوا يونانيين، وإنما كتبوا باليونانية، ممّا يدعوا إلى طرح السؤال التالي: لماذا لا نطلق على حضارتنا “الحضارة العربية” بدلاً من الحضارة العربية الإسلامية، والتي في التسمية الأخيرة غُبن للمسيحيين والصابئة واليهود ممّن ساهموا مساهمة فعّالة في بنائها، لا سيما وأن التاريخ لم يذكر لنا مَن نَعتَ الحضارة اليونانية بالحضارة اليونانية المتوسّطية، وأغلب مَن ساهم في تدوين منجزها الكتابي ليسوا من اليونانيين بل من أبناء ضفّتَي البحر المتوسط؟

جورج طرابيشي، أحد الذين نبهتني كتاباتهم، إلى خطورة ما تناقله المستشرقون والرحّالة والمبشّرون، وأن ما دوّنوه يجب تأمله جيدًا. وكان قد ساهم في نقلي من الدفاع عن حقوق الأقليات، إلى الإيمان أن مشكلتنا، ليست في أكثرية أو أقلية، وإنما في أنساق معرفية وحوامل اجتماعية مبنية على ثقافة الفرقة النّاجية، مما يخضع الجميع تحت مشرط التفكيك والنقد والتحليل، لوضع اليد على مواطن الخراب فينا، لأن الإيمان بحق ما لفئة ما، هو تكريس لثقافة الفرقة النّاجية، فدولة المواطنة، لا أقليات ولا أكثريات، ولا “سكان أصليون” ولا “سكان طارئون” أو “وافدون” أو “غزاة” أو “فاتحون” فيها.

برحيل جورج طرابيشي، خسرت العقلانية العربية، علمًا من أعلامها، ومثقفًا كَرَّسَ حياته للمعرفة، وأثرى المكتبة العربية بترجماته لا سيما مؤلفات فرويد، وأن مشروعه النقدي لا يقل أهمية عن مشروعه في الترجمة، وهنا لا أعني موسوعته “نقد نقد العقل العربي” فقط بل بقية كتبه مثل “هرطقات 1 و2”، و”مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام” وغيرها.

كاتب من العراق

ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الشهرية الثقافية اللندنية

12