معضلة توفير الطاقة تهدد نموذج دولة الرفاه في ألمانيا

برلين - يتلاشى عصر الرواج الصناعي في ألمانيا لينكشف اقتصاد غير مستعد للحياة وسط التقلبات العميقة في سوق الطاقة، ما يهدد قدرة أحد أسخى نظم دولة الرفاه في العالم على الاستمرار في الأجل الطويل إن لم يراجع المسؤولون حساباتهم لإبقاء بلدهم في القمة.
وتحدث المستشار الألماني أولاف شولتس عن تحول صناعي تقوده بلاده بأقصى سرعة عندما زار مصنعا لأشباه الموصلات وآخر للسيارات الكهربائية مؤخرا، غير أن رؤساء الشركات والخبراء يحذرون من أن أوقاتا صعبة تنتظر أكبر اقتصاد في أوروبا.
وبعد أن شهد ركودا هذا الشتاء، من المتوقع أن ينهي الاقتصاد الألماني العام في المنطقة الحمراء، لتلتحق البلاد بدول منطقة اليورو.
وإذ تتوقع الحكومة وحدها نمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، إلا أن المعاهد الاقتصادية الرئيسية وصندوق النقد الدولي يقدران تسجيل تراجع يتراوح ما بين 0.2 و0.4 في المئة.
ويؤثر التضخم وارتفاع الفائدة وتباطؤ الانتعاش في الصين وأسعار الطاقة على النشاط. لكن العاقبة ستكون أسوأ على ما حذر الأسبوع الماضي رئيس اتحاد قطاع الصناعات الألماني سيغفريد روسورم.
وقال في المؤتمر السنوي للاتحاد الذي يجمع النخبة السياسية والاقتصادية في ألمانيا إن “البلاد تواجه جبلا من التحديات المتزايدة”.
وأضاف أن “المزيد من الشركات، حتى الصغيرة والمتوسطة، تفكر في نقل جزء من استثماراتها إلى خارج ألمانيا”.
ومع نموذج اقتصادي يعتمد بشكل مفرط على النشاط الصناعي الذي يمثل أكثر من 20 في المئة من الاقتصاد، تعاني البلاد من أسعار الطاقة المحكومة بالارتفاع بشكل دائم، حتى لو هدأت بعد أن بلغت مستويات قياسية على خلفية الحرب في أوكرانيا.
ولطالما كانت روسيا المورد الرئيسي للغاز إلى ألمانيا التي كانت تستورده بأسعار مهاودة، لكن اليوم الأمر اختلف فألمانيا كغيرها من دول أوروبا تبحث عن مصادر بدلية مهما كانت التكاليف باهظة.
وخلال مؤتمر الصناعة، أكدت إنغبورغ نيومان، رئيسة اتحاد شركات النسيج الألمانية، أنه نظرا إلى “تكلفة الطاقة ونقص اليد العاملة الماهرة والبيروقراطية، فإن بالنسبة لنا، الإنتاج في ألمانيا لم يعد جذابا”.
وكانت ألمانيا البالغ تعداد سكانها نحو 83.2 مليون نسمة تملك من الحكمة والبصيرة ما جعلها تدخر 254.5 مليار يورو إلى حين الحاجة إليها. ويعادل هذا المبلغ 82 ألف يورو لكل رجل وامرأة وطفل في البلاد.
لكن التكلفة ارتفعت والمصدرين في معظم القطاعات يواجهون صعوبات كما أن الحكومة زادت من نفقاتها لتأمين مخزونات الوقود الأحفوري وخاصة الغاز، وقدمت مساعدات للسكان لمواجهة ارتفاع الأسعار.
وعادت إلى الظهور في الإعلام صور تقدم ألمانيا على أنها “رجل أوروبا المريض”، في إشارة إلى الفترة الممتدة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما تم وصف البلاد بهذا المسمى بسبب افتقارها إلى القدرة التنافسية وارتفاع معدلات البطالة.
لكن شولتس الذي وصل إلى السلطة في نهاية 2021 ليخلف أحد أفضل السياسيين براغماتية في تاريخ ألمانيا أنجيلا ميركل، يفضل الإشارة إلى فترة أخرى في التاريخ الحديث.
وفي مارس الماضي، أبدى اقتناعه بأن التحول المطلوب لتحقيق الحياد المناخي بحلول 2045 سيسمح لألمانيا “باستعادة معدلات النمو لفترة من الزمن كما كانت في الخمسينات والستينات”، أي في زمن “المعجزة الاقتصادية” لهذا البلد الذي كان في طور إعادة الإعمار.
ويرى الزعيم الاشتراكي الديمقراطي أن الإنفاق الهائل اللازم لتركيب توربينات الرياح وتصنيع السيارات الكهربائية وإزالة الكربون من إنتاج الصلب أو المواد الكيميائية وصنع مضخات حرارية مكان تسخين الغاز، سيخلق حلقة مفيدة.
لكن أكثر من خبير ينظرون بتشكيك إلى سيناريو عصر ذهبي جديد مدفوع بانتقال الطاقة والصناعات الخضراء.
ففي المقام الأول، سيستنزف هذا التحول المليارات من اليوروهات “لاستبدال مخزون موجود من رأس المال” الحراري بالكهرباء والكربون والاستعاضة عنه بمصادر الطاقة المتجددة “مع تكاليف أعلى بكثير”، وفقا لما قاله روسورم.
وأشار روسورم إلى أن “ذلك لن يجلب لنا نموا اقتصاديا إضافيا في البداية”.
ويعتقد تيمو وولميرشاوسر، مدير معهد إيفو الاقتصادي، أن ثمار هذا التحول لن يتم قطافها سوى في المستقبل البعيد، “عندما ننجح بالفعل في الحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري”.
وأوضح أن “على المدى القصير سيستهلك هذا الاتجاه الموارد وسيؤدي في البداية إلى إبطاء عملنا”.
وتنتظر ألمانيا سنوات من النمو البطيء وزيادات سنوية في الناتج المحلي الإجمالي تقل عن واحدة في المئة، بحسب توقعات المعاهد الاقتصادية الرئيسية في البلاد.
وقال مارسيل فراتزشر، مدير معهد دي.آي.دبليو للأبحاث الاقتصادية، “سيكون النمو أقل بكثير خلال هذا العقد مما كان عليه في 2010، المرتبط بازدهار البلاد”.

وبالإضافة إلى مشروع تحويل الطاقة، هناك نقاط ضعف هيكلية تعيق الأداء الاقتصادي، هي بطء الإجراءات والبيروقراطية وتأخيرات في التحديث الرقمي، وقبل كل شيء الشيخوخة الديموغرافية التي تؤدي إلى نقص العمالة التي تعاني منها الشركات بالفعل.
وحذر وولميرشاوسر من أنه إذا انخفض عدد السكان لفترة طويلة، فلن يتمكن الناتج المحلي الإجمالي أيضا من النمو في نهاية المطاف.
ويتوقع معهد إيفو أن يتباطأ التوظيف إلى 377 ألف وظيفة خلال عام 2023، مقابل 592 ألف وظيفة العام الماضي، وأن يواصل الانخفاض في عام 2024 إلى 121 ألف وظيفة.
كما أن معدل البطالة على الأرجح سيرتفع إلى 5.5 في المئة خلال العام الجاري، أو ما يعادل نحو 132 ألف شخص، ومن المتوقع هبوط نسبة البطالة خلال العام المقبل إلى 5.3 في المئة، أو ما يعادل نحو 104 آلاف شخص.
ومن المفارقات أن نتائج مسح حديث أجراه بنك دي.زد والرابطة الاتحادية لمصارف تعاونيات الائتمان فولكس بنك ورايفايزن بنك، كشفت أن حالة التفاؤل عادت لتسود مجددا بين الشركات المتوسطة في ألمانيا رغم الانكماش الاقتصادي الأخير.
وأظهرت أن غالبية هذه النوعية من الشركات التي شملها المسح، وعددها ألف، متفائلة بنشاطها خلال النصف الثاني من 2023، بعد تراجع مستوى توقعاتها لأنشطتها التجارية في الخريف الماضي.
ألمانيا البالغ تعداد سكانها نحو 83.2 مليون نسمة تملك من الحكمة والبصيرة ما جعلها تدخر 254.5 مليار يورو إلى حين الحاجة إليها
وبحسب تحليل القائمين على المسح، فإن أحد أسباب تحسن الحالة المعنوية للشركات يتمثل في أن حدة الارتفاع في أسعار الكهرباء والغاز تراجعت مؤخرا بشكل ملحوظ مقارنة بالعام الماضي، وذلك بفضل برنامج الحكومة للحد من ارتفاع أسعار هذه الخدمات.
وقيمت الشركات المتوسطة وضع الأعمال الحالي بوجه عام بأنه “عاد ليصبح أفضل من المتوسط طويل الأجل”.
وكتب معدو المسح أن “مقارنة بالمسح الذي أجريناه في الخريف، أصبح قلق الشركات المتوسطة الناجم عن أعباء التكاليف أقل بعض الشيء راهنا، غير أن هناك وقتا طويلا قبل اعتبار هذا سببا للاطمئنان”.
وأظهرت النتائج أن 73 في المئة من الشركات لا تزال تنظر إلى تكاليف الطاقة باعتبارها مشكلة، فيما اعتبرت 67 في المئة من الشركات أن المشكلة تتمثل في تكاليف المواد الخام والمواد.
وكتب الخبراء في تحليلهم أن “مستوى التكاليف المرتفعة لا يزال يؤثر على هوامش الأرباح، كما تقلصت القدرة التنافسية للشركات مقارنة بمنافساتها في الدول ذات التكاليف الأدنى في الطاقة والموظفين، وكذلك مقارنة بالشركات الألمانية التي تنتج في الخارج”.
وبحسب النتائج، أوقف جزء كبير من الشركات الألمانية المتوسطة نشاطه في الخارج منذ الخريف، فبينما كانت هناك 50 في المئة من الشركات تعمل في الخارج قبل ستة شهور، فإن هذه النسبة انخفضت إلى 45 في المئة حاليا.
وذكر الخبراء أن الشركات الصغيرة على وجه الخصوص التي لا تزيد إيراداتها السنوية عن 5 ملايين يورو أنهت علاقاتها التجارية في الخارج.
وأظهرت النتائج أن 82 في المئة من الشركات اعتبرت أن التحدي الأكبر يتمثل في نقص العمالة.
وكتب أوفه برجهاوس، مدير قسم عملاء الشركات في بنك دي.زد، “في أوقات ارتفاع التكاليف ونقص الكوادر الفنية وتغير سلاسل التوريد وتنامي البيروقراطية، تحتاج الشركات المتوسطة في المقام الأول إلى شيء واحد وهو تأمين مواقع عملها”.