معضلة المخدرات تستنفر السلطة الروحية للمرجع الشيعي الأعلى في العراق

تدخل السيستاني أملته خطورة الظاهرة ومساهمة جهات نافذة في استشرائها.
الثلاثاء 2024/08/13
خلطة عراقية قاتلة من فوضى السلاح وتدفق المخدرات

المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني المعروف بتدخلاته في المنعطفات التي تنطوي على مخاطر استثنائية على البلد، يدلي بدلوه في ملف المخدّرات، وذلك في مظهر على درجة الخطورة التي اكتسبتها الظاهرة وجعلتها في مرتبة خطر الإرهاب الذي سبق للسيستاني نفسه أن وظّف سلطته الروحية الواسعة في مواجهته من خلال فتواه الشهيرة ضدّ تنظيم داعش.

بغداد - استدعى المنحى الخطير الذي اتخذته تجارة المخدّرات واستهلاكها في العراق توظيف السلطة الدينية الواسعة للمرجع الشيعي الأعلى في البلاد علي السيستاني في محاولة الحدّ من تفاقم الظاهرة وتقليل مخاطرها على المجتمع بعد أن بلغت جهود السلطات الأمنية أقصاها في مواجهة هذا الوباء الفتّاك دون النجاح في وقف تقدّمه وانتشاره.

ويُعرف عن السيستاني تدخّله في المنعطفات الحرجة والأحداث بالغة الخطورة على غرار تدخّله سنة 2014 بإصدراه فتوى الجهاد الكفائي التي استُنفر بموجبها الآلاف من العراقيين وتشكّل بمقتضاها الحشد الشعبي لمواجهة تنظيم داعش الذي غزا آنذاك مساحات واسعة من البلد.

وتواترت في الآونة الأخيرة التقارير المحلية والدولية بشأن دخول ظاهرة المخدرات في العراق منعطفا خطرا على البلد والمنطقة ككل، وصولا إلى توجيه منظمة الأمم المتّحدة تحذيرا من أنّ البلاد تشهد طفرة مواد مخدّرة غير مسبوقة.

وبالإضافة إلى الدور الذي يُؤمل أنّ يقوم به السيستاني في إقناع شرائح واسعة من العراقيين بالابتعاد عن استهلاك المواد المخدّرة من منطلقات عقائدية، يمكن أن يكون له دور مساعد للأجهزة الرسمية العراقية في مواجهة شبكات تهريب وترويج تلك المواد، كون بعض الجهات الضالعة في تجارة المخدّرات تمتلك نفوذا كبيرا في البلد يفوق في بعض الأحيان سلطة الدولة بحدّ ذاتها.

ويتعلّق الأمر بالفصائل الشيعية المسلّحة ذات الصلة بأحزاب وشخصيات مشاركة في الحكم بشكل مباشر، وتتواتر المعلومات  بشأن استخدامها تجارة المخدّرات كمصدر تمويل لأنشطتها لاسيما التسلّح والإنفاق على مقاتليها.

فتوى السيستاني بشأن المخدرات تذكر بفتواه سنة 2014 بشأن تنظيم الدولة الإسلامية وتشريعه التطوع لمحاربة التنظيم

ولم تحمل ردود صدرت عن المرجع الشيعي الأعلى عما قال مكتبه إنها أسئلة وجهت إليه حول موضوع المخدّرات جديدا بشأن تحريم الاتجار بها واستهلاكها، وهو أمر معروف سلفا، ولكنّها تضمّنت تذكيرا ضمنيا للجهات النافذة المساهمة في نشر المواد المخدّرة بالبلاد بأنّ انخراطها في تلك الأنشطة الممنوعة قانونا والمحرّمة شرعا يجعلها خارجة عن تعاليم الدين وأخلاقيات الطائفة.

وجاء في إحدى الإجابات التي نشرها مكتب السيستاني، الاثنين، أن “المخدرات محرمة بجميع أنواعها والأموال المستحصلة عن طريقها سُحْت يحرم التصرف فيها”.

كما ورد أيضا أنّه “تنبغي مقاطعة التعامل مع كل من يقوم بتهريب المخدرات أو التجارة بها ولا فرق بحرمة تجارة المخدرات ونقلها”.

ويخلق انخراط الميليشيات الشيعية في تجارة المخدّرات وتواطؤ بعض المسؤولين الأمنيين معها صعوبات إضافية للأجهزة المختصة بمكافحة الظاهرة.

وحدث في مرّات كثيرة أنّ واجه مسؤولون أمنيون عراقيون مهنيون ونزهاء مخاطر كبيرة بسبب تمسكّهم بإداء واجباتهم وعدم تجاوبهم مع إغراءات بارونات التهريب والاتجار بالمخدّرات ورفضهم الرضوخ لضغوطهم. ودفع بعض هؤلاء حياته ثمنا لذلك.

وحملت فتوى السيستاني دعما لهذا النوع من المسؤولين بأن صنّفت “من يقوم بواجبه ويتعرض في هذا السبيل لأذى” ضمن مقام الشهداء.

ويعتبر استشراء ظاهرة المخدّرات ذات النتائج الصحية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية الخطرة، كذلك، وجها لفشل النظام السياسي القائم في العراق في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي له، والذي تقوده بالأساس أحزاب دينية ترفع شعارات أخلاقية وتروّج لنشر الفضيلة في المجتمع.

وحذّرت الأمم المتحدة في تقرير أصدره مؤخرا مكتبها المعني بالمخدرات والجريمة من أن العراق بصدد التحول إلى محور رئيسي لتهريب المواد المخدّرة. وذكرت أنّ السلطات العراقية صادرت العام الماضي كميات قياسية من حبوب الكبتاغون تصل قيمتها إلى 144 مليون دولار.

وأشار التقرير إلى أنّ مضبوطات الكبتاغون زادت بنحو ثلاثة أضعاف بين العامين 2022 و2023، لافتا إلى أن المضبوطات في العام الماضي هي أعلى بمقدار 34 مرة من تلك المحققة في 2019.

ولفت إلى أنّ العراق معرّض لأن يصبح محورا متزايد الأهمية بالنسبة لمنظومة تهريب المخدرات عبر الشرق الأوسط والأدنى، حيث يقع البلد في نقطة تقاطع منظمة عالمية معقدة لتهريب المخدرات.

وغالبا ما تعلن بغداد ضبط كميات كبيرة من المواد المخدرة أبرزها الكبتاغون الذي يتمّ تهريبه بشكل أساسي من سوريا التي باتت المصدر الرئيسي لتصنيع تلك الحبوب المخدرة.

وحذر التقرير الأممي من أنه رافق ارتفاع عمليات نقل المخدرات عبر العراق والدول المجاورة، زيادة في الاستهلاك المحلي في جميع أنحاء البلاد.

ويقول خبراء دوليون في مجال مكافحة المخدّرات إن الميليشيات المسلحة التي ينشط الكثير منها على أرض العراق، وبينها فصائل كثيرة موالية لإيران وبعضها مشارك في الحكم بشكل مباشر عبر الإطار التنسيقي الشيعي وممثل تحت قبة البرلمان عن طريق كتل تابعة له، ضالعة في التخادم مع عصابات التهريب والترويج.

خطر محدق

وتؤكد مصادر محلية أنّ أحزابا سياسية وميليشيات عراقية مسلّحة كثيرا ما تحمي المهربين وتسهل عملياتهم ما يفسّر تحول معبر البصرة الحدودي بين العراق وإيران، على سبيل المثال، إلى مركز عبور رئيسي للمواد المخدّرة.

وتسيطر قوات الحشد الشعبي ذات الأغلبية الشيعية على نقاط التفتيش الرئيسية، وتعلن أنّها جزء من محور إقليمي “مقاوم” تقوده إيران يمتد إلى لبنان وسوريا، لكن المصادر تقول إنّ المحور نفسه يسخّر سلاحه وسطوته الأمنية في تهريب المواد المخدّرة والمتاجرة بها للحصول على تمويل ذاتي يغطي المصاريف الكبيرة لتلك الفصائل.

وتظهر معلومات أمنية أنّ مناطق جنوب العراق، وخصوصا تلك التي تشهد حركة كثيفة للزوار الإيرانيين وتضمّ مقدّسات للطائفة الشيعية، أصبحت موضع تركيز أكبر من قبل مهربي المخدّرات وتجارها. ويفسّر البعض ذلك بأنّ تلك المناطق تعتبر معقلا لعدد من الميليشيات الشيعية التي تعتبر طرفا أساسيا في تجارة المخدّرات.

وتضمنت فتوى السيستاني إشارة ضمنية إلى ضلوع جهات نافذة في الدولة العراقية في ترويج المواد المخدّرة. وورد في إجاباته أنّ “من يتهاون من المسؤولين عن مكافحة المخدرات في أداء مهامهم إنّما يقترف إثما مضاعفا، كما أن الجهات التي بيدها زمام الأمور عليها مسؤولية كبرى في تطهير الأجهزة الأمنية والقضائية من الفاسدين والمفسدين”.

وترتبط برواج تجارة المخدرات في العراق ظاهرة الإدمان التي أصبحت مرئية بشكل واضح بين فئات المجتمع العراقي، وهي ظاهرة تتصل أيضا بالتقلبات الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، فضلا عن استشراء العنف وبلوغه خلال العقد الماضي مديات ذات تأثيرات نفسية وسلوكية واضحة على الكثير من العراقيين.

الأمم المتحدة تحذر في تقرير أصدره مؤخرا مكتبها المعني بالمخدرات والجريمة من أن العراق بصدد التحول إلى محور رئيسي لتهريب المواد المخدّرة

وبحسب مصادر عراقية متعدّدة، فإنّ استهلاك المواد المخدّرة بات يطال شرائح واسعة من المجتمع العراقي حتى إنّه لا يستثني موظفي الدولة، ومن بينهم منتسبو الأجهزة الأمنية.

وقد استدعى الأمر إنشاء لجنة متخصصة بفحص المخدرات في وزارة الداخلية يرأسها العميد محمد عدنان عبدالله “مهمتها فحص ضباط ومنتسبي الوزارة فحصا شاملا للجميع، ابتداء من آمر القاطع أو مدير الدائرة إلى أصغر منتسب”، بحسب رئيس اللجنة الذي أوضح في وقت سابق أنّ “آلية الفحص تكون شاملة ومفاجئة من دون سابق إنذار سواء في المرور أو النجدة أو الشرطة الاتحادية”.

واعتبر السيستاني في إحدى إجاباته “أنّ الجهات العليا التي بيدها زمام الأمور تتحمل مسؤولية كبرى في تطهير الأجهزة الأمنية والقضائية من الفاسدين والمفسدين، ومن المؤكد أنه لا يمكن التغلب على مشكلة المخدرات ولا على غيرها من الجرائم المنتشرة في البلد من دون وجود أجهزة أمنية وقضائية فاعلة تتسم بدرجة عالية من النزاهة والمهنية”.

وقال إنّ “الواجب الأعظم إنما هو على عاتق الأجهزة الحكومية المختصة والسلطة القضائية بأن تقوم بكل ما يلزم لمكافحة المخدرات والحزم مع كل من يخالف القوانين النافذة في هذا المجال، والعمل من خلال وسائل الإعلام والبرامج المؤثرة على تثقيف المواطنين وتوعيتهم بمخاطر تعاطي المواد المخدرة والإدمان عليها، ويلزمها توفير المصحات اللازمة لمعالجة المدمنين وعدم الاقتصار على استخدام العقوبة من السجن ونحوه وسيلة لمكافحة هذه الآفة الخطرة بل السعي إلى تخليص من ابتلي بها بأسلم الوسائل وأنجعها لإرجاعه إلى المجتمع سالما معافى. ومن الضروري الاستعانة بالخبرات الإقليمية والدولية في التعامل الصحيح مع هذه المشكلة المتعاظمة”.

وأبقى المرجع العراقي الذي تصفه العديد من الدوائر بالاعتدال قياسا بالمراجع الشيعية الإيرانية باب العودة مفتوحا لمن تورّطوا في استهلاك المواد المخدرة قائلا في إحدى إجاباته “تُقبل توبة كل من كان يتعاطى وتاب واستمر في العلاج إلى آخر مراحله، ولم يعد إلى المخدرات نهائيا”، لكن فتواه أسقطت بالمقابل “حق الأم مدمنة المخدرات في حضانة الأطفال إذا وُجد ضرر على سلامتهم”.

3