معضلة إعلامية في تونس اسمها "الكشف عن المصادر"

تونس - أثار توقيف صحافي تونسي نشر خبرا حول تفكيك خلية إرهابية بالقيروان ورفض الكشف عن مصادره جدلا إعلاميا في البلاد وفتح نقاشات حول “منطقية إبقاء المصادر سرية في القضايا الإرهابية”.
وأوقفت “الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب” (فرقة أمنية) الصحافي خليفة القاسمي مراسل إذاعة “موزاييك.إف.إم” الخاصة بالقيروان (وسط) 5 أيام على ذمة البحث، بموجب الفصل 24 من قانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال لسنة 2015، حسب ما أفادت به منظمات محلية.
ويقضي هذا القانون في الفقرة الخامسة منه أنه “يعد مرتكبا لجريمة إرهابية كل من يتعمد إفشاء أو توفير أو نشر معلومات مباشرة أو غير مباشرة أو بواسطة أي وسيلة كانت لفائدة تنظيم أو وفاق إرهابي أو لفائدة أشخاص لهم علاقة بالجرائم الإرهابية”.
ومن شأن نشر “معلومات حصرية” لم يعلن عنها للإعلام من الجهات الأمنية عن خلايا إرهابية إرسال تحذيرات لإرهابيين غير معروفين للدوائر الأمنية، خاصة أن تونس تواجه تهديدات إرهابية مختلفة، دفعت وزارة الداخلية إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة للتصدي لعمليات محتملة.
قضية عدم الكشف عن المصادر الصحافية تعتبر من القضايا الشائكة في العمل الإعلامي العالمي والعربي كافة
من جانبها، أعلنت 31 منظمة تونسية السبت تضامنها مع الصحافي، داعية لإطلاق سراحه “فورا”. جاء ذلك في بيان مشترك لتلك المنظمات غير الحكومية، بينها “نقابة الصحافيين التونسيين”، و”الجامعة العامة للإعلام بالاتحاد العام التونسي للشغل”، و”الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان”، و”المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”. ودعت المنظمات في بيانها المشترك إلى إطلاق سراح الصحافي الموقوف حالا وإغلاق هذا الملف الذي وصفته بـ”الكيدي”.
وفي المقابل أعرب خبراء أمنيون عن قلقهم من أن بعض المؤسسات الإعلامية تستخدم “مصادر مجهولة لأجندات خاصة”، مؤكدين أن الحديث عن سرية المصادر في القضايا الإرهابية “ليس له أساس منطقي”.
وتعتبر قضية عدم الكشف عن المصادر الصحافية من القضايا الشائكة في العمل الإعلامي والصحافي في الإعلام العالمي والعربي كافة، وتونس ليست استثناء، ومن آن إلى آخر تطفو على السطح، ولاسيما حينما يتعلق الأمر بمصائر أرواح بشرية.
ويصارع محترفو الإعلام في كل مكان في العالم مع هذه القضية الشائكة.
ووفقا لجمعية الصحافيين المحترفين (SPJ)، أحيانا المصادر المجهولة هي المفتاح الوحيد لكشف قصة كبيرة، وكشف الستار عن الفساد وإكمال المهمات الصحافية للمراقبة على الحكومات وإخبار المواطنين، لكن أحيانا المصادر المجهولة هي الطريق إلى مستنقع أخلاقي. وينص ميثاق شرف الفدرالية الدولية للصحافيين على التزام الصحافي اتباع السرية المهنية في ما يتعلق بمصدر المعلومات الذي يطلب عدم إفشائه.
وجاء القانون التونسي منسجما مع بنود العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وبقية المواثيق الدولية ذات العلاقة المصادق عليها وقد تضمن المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرّخ في الثاني من نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر في فصله 11 تدابير تقدمية تؤدي حتما إلى إحداث تطور كبير في حرية الإعلام في تونس.
إذ نص الفصل 11 من المرسوم المذكور أن تكون مصادر الصحافي عند قيامه بمهامه ومصادر كل الأشخاص الذين يساهمون في إعداد المادة الإعلامية محمية، ولا يمكن الاعتداء على سرية هذه المصادر سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة إلا إذا كان ذلك مبرّرا بدافع ملح من دوافع أمن الدولة أو الدفاع الوطني وخاضعا لرقابة القضاء. ويجادل خبراء أمنيون أنه “الحال مع الصحافي الموقوف إذ يتعلق الأمر بمعلومات عن خلية إرهابية”.
وأقر القانون التونسي حماية لسرية المصادر الصحافية تتماشى مع المعايير الدولية والإقليمية ولا يمكن انتهاك هذه الحماية إلا تحت رقابة القضاء وفي حالات خاصة تمس في جوهرها السيادة الوطنية أو تشكل خطرا جسيما على السلامة الجسدية للغير مع اشتراط عدم التمكن من الحصول على المعلومة بطرق أخرى.
ويعتقد مراقبون أن “مفهوم حماية حق الصحافيين في الاحتفاظ بأسرار مصادرهم ليس مطلقا لا تحده حدود، وليس دون استثناءات إذ في بعض الحالات تحتاج المحاكم إلى معرفة هوية مصادر المعلومات حتى يمكن تحقيق العدالة في بعض القضايا المنظورة أمامها، ومهما تكن هذه المصلحة مشروعة إلا أنها يمكن أن تقيد مصلحة أخرى أكثر مشروعية وهي حماية الأرواح”.

ووضعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، الحكم التعديلي للمشهد السمعي البصري في تونس، وثيقة مرجعية توجيهية (مهنية أخلاقية) بعد استخلاصات مهنيين وخبراء محليين وأجانب (مكتب بي.بي.سي ميديا أكشن في تونس) وأكاديميين ومؤسسات إعلامية عمومية وخاصة ومكونات مدنية ومختصين أمنيين وعسكريين سمتها الوثيقة التوجيهية حول التغطية الإعلامية خلال فترة الأزمات (الأحداث الإرهابية نموذجا) وتم نشر استخلاصاتها في نهاية أبريل 2016 لتكون ما يشبه “الدستور المهني الأخلاقي الصغير” عند التعاطي مع الأحداث الإرهابية، ولم تتحدث هذه الوثيقة إلا عرضا عن المصادر وفي مناسبة وحيدة فحواها “عند تغطية العمليات الأمنية أثناء العمليات الإرهابية يستحسن التقيد بما تنشره الجهات الرسمية مع ضرورة التنصيص بوضوح على المصدر”، يعني “مصدر أمني، قضائي، صحي، شهود….”. وليس الكشف عن المصدر بالهوية.
وقال الصحافي في التلفزيون الرسمي التونسي فطين حفصية إن “الوثيقة المعتمدة على تجارب مقارنة لم تتحدث إطلاقا عن المصادر وإن أردنا تكييفا آخر فيمكن القول إن ‘مشرعها’، سهوا أو عمدا، ذهب للأقصى وهو مبدأ حق حماية المصادر الذي تنص عليه قوانين عديدة بل إن بعضها تجرم الإفصاح عنه أصلا وهنا الحديث عن المصادر السرية وليس العادية كحال قانون حرية الصحافة السويدي ولا أطرح هنا مقارنة مع القانون التونسي”.
وأضاف “أبعد من ذلك: هناك معلومات ينبغي حمايتها وليس المصادر فحسب وهناك أمثلة يومية يعايشها الزملاء كالمعلومات الشخصية والوثائق والأشرطة التسجيلية والصوتية… وسيطرح في أعقاب ذلك السؤال أين الخيط الرفيع بين المصدر السري والمصلحة العامة؟ الإجابة بسيطة وواضحة أيضا: ينبغي هنا الموازنة التقديرية بين الصحافي والمصلحة عبر قناة واضحة وجهة وحيدة (قضائية) وليس جهات (مؤسسة إعلامية، تعديلية، أمنية وقضائية ومجتمعية أو أشخاص لا مصلحة لهم الخ.. ) أو ضغوط عبر منافذ قانونية زجرية وبالتالي تقييد جهة الإفصاح ما أمكن، إن وجدت أصلا، وإلا عدنا إلى غابة الفوضى في المصادر والأخبار التي تابعناها في عدة قضايا منذ 2012، وتم إجهاض قاعدة أن الكشف عن المصادر لا يعني تقويض الثقة في الصحافي ومؤسسته فحسب بل ثقة المجتمع بالصحافيين ككل”.
وتابع بن حفصية “بالعودة إلى الوثيقة التوجيهية نجد التوصية التالية: على الصحافي أو وسيلة الإعلام في حال ورود تهديدات أو معلومات تفيد التحضير لعمليات إرهابية إعلام الجهات الأمنية أو العسكرية برسائل التهديد أو المعلومات الواردة، وهو ليس قضية الحال بالنسبة إلى خليفة القاسمي ومؤسسته الإعلامية التي لها في كل الحالات مسؤولية حماية صحافييها والإبلاغ ما يعني أن السلطات التي أحبطت العملية وهي أمنية قد أعلمت بدورها، قانونا، السلطات القضائية وهنا يفتح باب مخلوع”.
واعتبر بن حفصية “إن التعاطي الإعلامي مع الأحداث الإرهابية بطرح قانوني زجري فقط (قانون الإرهاب) يضعنا رأسا في برك قانونية وأخلاقية راكدة لا خروج منها يكون فيها الصحافي الحلقة الأضعف وتاريخ المهنة ليس مثقوبا”.
ولم تصدر السلطات أي تعليق حول توقيف الصحافي القاسمي، لكنها عادة ما تؤكد التزامها بصون حرية التعبير والصحافة في البلاد.