معركة أرثوذوكسية محتدمة في القدس

أزمة دير السلطان تتجدّد وتبحث عن حلّ بين رهبان مصر وإثيوبيا.
الاثنين 2021/05/10
خلاف مستمرّ بين رهبان مصر وإثيوبيا

تثير قضية ملكية دير السلطان في القدس نزاعا في ظاهره يبدو دينيا بين الكنيستين المصرية والإثيوبية. لكن اللافت أنه يتم تأجيج هذا الصراع من قبل الجانب الإثيوبي بدافع سياسي يدخل الدير في خضم أزمة سدّ النهضة بين القاهرة وأديس أبابا، كما لو أنه طرف فيها، وهو ما يحول دون إيجاد تسوية دينية لملف دير السلطان.

اتجهت الأنظار صوب دير السلطان في القدس منذ الثامن والعشرين من أبريل الماضي، بعدما اشتبك حجاج إثيوبيون مع رهبان مصريين خلال رحلة التقديس السنوية قبيل عيد القيامة، بسبب قيام بعضهم بنصب خيام في أروقة الدير المصري، ورفع علم إثيوبيا عليه بدعوى الاحتفال.

وحرّك الاشتباك الكثير من المياه الراكدة في أزمة دير السلطان المملوك للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ودفع الأنبا أنطونيوس مطران القدس والكرسي الأورشليمي للكنيسة القبطية للاعتصام أمام الدير احتجاجا على اعتداء إثيوبيين على المطران والتهكم على رهبان مصريين لدى محاولتهم إنزال العلم.

ودخل دير السلطان في خضم أزمة سدّ النهضة بين مصر وإثيوبيا، وبدا كأنه طرف فيها، وهو ما يدخل الدير في خضم أزمة أخرى تقلل من فرص إيجاد تسوية دينية.

التزمت الكنيسة المصرية الصمت، باستثناء بعض التصريحات الصادرة عن أقباط للشجب والإدانة، وتسابقت مواقع إلكترونية لسرد تاريخ الدير ونشر مستندات تثبت ملكيته المطلقة للكنيسة القبطية، ممثلة في مطران الكرسي الأورشليمي، دون التفات للتطور الجديد في تعامل الإثيوبيين مع قضية الدير الذي اتسم بنوع من الجرأة والاستفزاز ومحاولة طمس الهوية المصرية عنه.

دير السلطان مكان ديني للعبادة لا ترفع فيه أعلام لأي دلالات سياسية، ورفع علم دولة بداخله سابقة لإظهار تبعية المكان للدولة، ولا يمكن فصل ذلك عن التوتر الذي يشوب العلاقات المصرية الإثيوبية وقد تعجّل الأزمة بفتح ملف الدير.

طمس الهوية القبطية 

قال مصدر قبطي لـ”العرب”، “إنّ ما قام به الأحباش مرفوض تماما، وأبعد ما يكون عن أخلاق الرهبان، لأن العلاقة التي تربط الكنيسة الإثيوبية بالمصرية وطيدة مع التأكيد على أن دير السلطان هو دير قبطي وما يقوم به البعض مرفوض جملة وتفصيلا”.

يستند الاستنكار لواقعة دير السلطان إلى أن الجانب الإثيوبي لا يمل من إثارة المشكلات متبعا سياسة النفس الطويل، ولا يعترف بعدم أحقيته في ملكية الدير ويتربص البعض للكهنة المصريين وينتهزون الفرص المواتية لتغيير الأوضاع في مدينة القدس أو تغيير النفوذ الدولي ويلعبون على وتر الصراعات القائمة للتأثير على موقف الكنيسة المصرية في القاهرة التي ترفض الابتزاز، ما يؤدي إلى تجدد المشكلة.

وقال أحد الرهبان المترددين على الدير، فضل عدم ذكر اسمه، في اتصال هاتفي مع “العرب”، “إن الدير لم يخل إطلاقا من الرهبان المصريين، وثمة محاولات متكررة من الرهبان الأحباش لطمس الهوية القبطية للدير”.

وكشف أن حامل الأيقونات بين دير السلطان وكنيسة القيامة يتكون من العاج والخشب المعشق على الطريقة القبطية، ومكتوب عليه “السلام لهيكل الله الآب” بالخط القبطي، وكانت هناك محاولات من الرهبان الأحباش لتعليق أيقونات أخرى تخفي هويته والادعاء بأنه من أملاك الكنيسة الحبشية، في تجاهل تام لحقيقة تبعية الكنيسة الحبشية إلى الكنيسة الأم في مصر.

وأوضح الراهب أن حالة التناحر الداخلي في إثيوبيا، تدفع حكومة أديس أبابا إلى افتعال أزمات كبرى بين رعاياهم، وقد سعى بعضهم إلى فصل الكنيسة الحبشية عن القبطية وساعدتهم في ذلك تدخلات قوى لصالح إثيوبيا.

ويقع الدير الأثري على مساحة 1800 متر مربع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، في حارة النصارى بجوار كنيسة القديسة هيلانة وكنيسة الملاك وبجانب الممر الموصل من كنيسة هيلانة إلى سور كنيسة القيامة، وهي المعلم المسيحي الأهم في القدس والملاصق للمسجد الأقصى ويعتقد المسيحيون أن السيد المسيح قد دفن فيه.

تأتي أهمية الدير من كونه يختصر على المصلين المسافة ومن دونه يسير الأقباط مسافة طويلة وفي شوارع ممتدة للوصول إلى كنيسة القيامة.

يرجع تاريخ الدير إلى عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي، ويسمى الدير باسم السلطان نسبة إليه، حيث أهداه للأقباط تقديرا لدورهم في النضال ضد جيوش الصليبيين، وعمل الدير على استضافة الرهبان الأحباش بعد أن طردتهم الحكومة المحلية في القدس من أديرتهم وكنائسهم منذ ثلاثة قرون لعجزهم عن دفع الضرائب المُقررة عليهم، فاستضافهم الأقباط حِرصا على عقيدتهم، وتوفير السبيل لهم للبقاء في القدس على أساس أنهم من أولاد الكنيسة القبطية في النهاية.

توترات سياسية

تبدو قضية ملكية دير السلطان نزاعا دينيا في ظاهرها بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، لكن اللافت أنه يتم تأجيجها من قبل الجانب الإثيوبي في ظل بعض الأزمات السياسية.

 

رهبان إثيوبيون يرفعون علم بلادهم داخل دير السلطان المملوك للكنيسة المصرية، ويقحمون الدير في خضم أزمة سدّ النهضة بين مصر وإثيوبيا

ويستطيع المتابع للشأن القبطي رصد تلك الأطماع منذ أوائل القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد منذ عام 1820 وحتی الآن، فالقضية تتأثر بالمجريات السياسية والدولية، فتخمد تارة بينما يترقب الجانب الإثيوبي الوقت المناسب لإثارتها مرة أخرى.

يسهم في ذلك مساندة بعض الدول لإثيوبيا في مواجهة مصر؛ إذ أعلن قيصر روسيا في القرن التاسع عشر أنه حامي المسيحية الأرثوذكسية في الشرق، وساند الإثيوبيين في الادعاء بملكية الدير، بهدف ضم الكنيسة الإثيوبية إلى الروسية الأرثوذكسية، ونكاية في الكنيسة المصرية التي رفضت التبعية للكنيسة الروسية.

لم يسلم الدير من الممارسات الإنجليزية والفرنسية وأطماعهما في إثيوبيا، وهو الدافع  لتأييدهما للادعاءات الإثيوبية بملكية الدير في وقت مبكر، لتأجيج الصراع بين مصر والحبشة.

في أوائل الستينات من القرن الماضي استغلت إثيوبيا اهتزاز العلاقات بين مصر والأردن وأقنعت الحاكم الأردني بالقدس لوصايته على الأماكن المقدسة بملكيتها للدير وتسليمه لها، وهو ما أثار حفيظة البابا كيرلس السادس في مصر الذي استشعر الخطر وطلب من الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر التدخل لوقف المخطط الإثيوبي، وبالفعل تحدث مع الملك حسين لإقناعه بملكية الكنيسة المصرية للدير وهدأت الأمور.

تم إرسال وفد مكوّن من الأنبا يؤانس مطران الجيزة والأنبا  باسيليوس والأنبا بنيامين والأنبا أنطونيوس مطران سوهاج إلى الأردن لإطلاع الحاكم على المستندات، وبعد إجراء مفاوضات واقتناع الحاكم الأردني بأحقية الأقباط المصريين في الدير أصدر قرارا عام 1961 بإلغاء القرار السابق، وإعادة مفاتيح الدير إليهم.

هدأت الأمور لسنوات واستقبل الدير الأقباط الإثيوبيين، لكنهم انتهزوا فترة الصراع بين مصر وإسرائيل وانحازوا للأخيرة التي وقفت بجانب ادعاءات إثيوبيا بملكية الدير، وصدرت قرارات بتأييد أحقيتها فيه، وكان ذلك بداية لتوثيق العلاقات بين إسرائيل وإثيوبيا التي تجلت بعد ذلك في تسهيل أكبر عملية تهجير في التاريخ الحديث لنقل اليهود الإثيوبيين (يهود الفلاشا) إلى إسرائيل من خلال الرئيس السوداني جعفر نميري الذي أسهم في العملية.

بالقراءة المتأنية لكتب التاريخ الكنسي، يمكن رصد تصعيد غير مبرر من الجانب الإسرائيلي في الخامس والعشرين من أبريل لعام 1970، ففي أثناء إقامة قداس عيد القيامة بكنيسة القيامة أرسلت الحكومة الإسرائيلية قوات عسكرية لتمكين الرهبان الأحباش من دير السلطان، وسلمت المفاتيح الجديدة لهم، وعندما علم الرهبان الأقباط بهذا هرعوا إلى دير السلطان للاحتجاج واستعادة ممتلكاتهم، لكن القوات الإسرائيلية منعت بالقوة دخول مطران الأقباط وكل من معه إلى دير السلطان.

ويفسر موقف إسرائيل الغامض بأن الجانب الإثيوبي التفّ لإقناع المسؤولين فيها بادعاءاته حول ملكية الدير، ولقي آذانا صاغية بسبب الصراع الدائر حينئذ بين مصر وإسرائيل التي من مصلحتها إبقاء الوضع على ما هو عليه لاستخدامه كورقة ضغط للمساومة به في بعض الملفات.

الحجج والوثائق

المعطيات الراهنة تؤكد أن المشكلة لن تنتهي إلا بخوض معركة سياسية جادة للحصول على اعتراف حاسم من الإثيوبيين بملكية الأقباط لدير السلطان
المعطيات الراهنة تؤكد أن المشكلة لن تنتهي إلا بخوض معركة سياسية جادة للحصول على اعتراف حاسم من الإثيوبيين بملكية الأقباط لدير السلطان

في دراسة وثائقية عن الصراع المصري الإثيوبي على الدير، أكد أنتوني سوريال عبدالسيد أستاذ مساعد في التاريخ الحديث بجامعة أسيوط في جنوب مصر، أن هيئة المحكمة الإسرائيلية قامت بدراسة الحجج والوثائق التي قدمها الطرفان دراسة عميقة، ولم يستطع الإثيوبيون تقديم مستنداتهم، وعللوا ذلك بأنها احترقت.

وأشار سوريال إلى انتقال هيئة المحكمة بكاملها إلى الدير للمعاينة على الطبيعة، فرأوا أحجبة الهياكل مطعمة بالطراز القبطي القديم وعليها التاريخ الميلادي وتاريخ الشهداء الأقباط باللغتين القبطية والعربية، ما دفع رئيس المحكمة إلى مهاجمة وزير الشرطة الإسرائيلي بالقول “أنتم ارتكبتم عملا لصوصيا ومخالفا للنظام والقانون، هذا الدير قبطي يعاد إلى أصحابه فورا”.

وكان دفاع الحكومة الإسرائيلية تجاه قيامها بهذا العمل العدواني بأن أشارت إلى أن القضية لها أبعاد سياسية، وطلبت من المحكمة ألا تأمر بإعادة الدير، لكنها رفضت وأصدرت قرارها برد الدير إلى الأقباط، وفرضت غرامة على كل من وزیر الشرطة الإسرائيلي والأسقف الإثيوبي تقدر بألف ليرة إسرائيلية، ورغم هذا الحكم الحاسم أصدرت الحكومة الإسرائيلية قرارا مؤقتا بإيقافه لدراسة القضية.

وقررت المحكمة العليا الإسرائيلية عام 1972 عودة ملكية الدير بالكامل للكنيسة القبطية، لما لديها من مستندات تثبت ملكيتها وحيازتها للدير، لكن ذلك لم يردع الجانب الإثيوبي وتسليم الدير، وذهبت أحكام القضاء هباء.

وحيال الرفض الإسرائيلي بتسليم الدير للأقباط وتسييس القضية، بدأ الأقباط يتخذون إجراءات للمحافظة على حقوقهم وملكيتهم للدير، فأرسل الأنبا باسيليوس مطران القدس صورة من جميع الوثائق والحجج القانونية التي تثبت ملكية الأقباط إلى جميع حكومات دول العالم، وإلى مجلس الأمن، وهيئة اليونسكو، وقد تسلم المطران الرد، ومفاده أن ما يحدث يشبه القوات الغازية في أثناء الحروب وهو غير قانوني.

كما أن بابا الأقباط الراحل شنودة الثالث أصدر قرارا من المجمع المقدس سنة 1980 بعدم التصريح لرعايا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالسفر للقدس إلى حين استرداد الدير.

وأكد البابا أن الدير “أرض مصرية يملكها مصريون داخل القدس قامت إسرائيل باغتصابها، وأن الكنيسة القبطية ورئاستها الدينية تركت هذا الموضوع وحله للحكومة المصرية التي تعرف تفاصيله تماما”.

فصول متباينة للتصعيد

توالت الأزمات على دير السلطان في ظل تواطؤ الشرطة الإسرائيلية، لكن ظهرت في الأفق بادرة أمل عام 2016 عندما دعت الكنيسة الإثيوبية وفدا من الكنيسة المصرية وصرح المتحدث باسم الكنيسة الأرثوذكسية بولس حليم “أن الدير لا يوجد به رهبان أقباط، بل يقتصر الوجود فيه على رجال الدين التابعين للكنيسة الإثيوبية”، مؤكدا أن الوضع الحالي للدير يتلخص في أن “مصر تمتلكه قانونا وإثيوبيا تمتلكه فعليا”، ولم تسفر المفاوضات عن حلول مرضية للجانب المصري.

ورصدت “العرب” فصلا جديدا من التصعيد في أكتوبر 2018 بين الكنيسة القبطية والقوات الإسرائيلية، بسبب سقوط حجر من أعلى الدير، وقدم الأب أنطونيوس طلبا للبلدية كي يتم السماح له بترميم الدير، لكن سلطات الاحتلال رفضت وأعلنت أنها ستتولى عملية الترميم، فما كان من المطران إلا أن نظم وقفة احتجاجية مع الرهبان المصريين هناك ضد ما وصفه بتثبيت أقدام الإثيوبيين في دير تملكه الكنيسة المصرية، ويمكن أن يطمس المرممون المعالم القبطية للدير لإخفاء هويته، واستخدمت قوات الاحتلال القوة لفض الوقفة وألقت القبض على راهب قبطي وتدخلت السفارة المصرية للإفراج عنه في ذلك الوقت.

وكشف الأنبا أنطونيوس أن الكنيسة القبطية تمتلك 23 وثيقة تثبت ملكية دير السطان لها منذ عام 1680، قائلا “نحن ندافع عن حقنا ولن نترك المكان أبدا”.

ويرى متخصصون أن قضية دير السلطان ذات شقين، الأول قانوني، حيث بذلت الكنيسة القبطية قصارى جهدها لتأكيد أنه كان وسيظل أحد ثوابت مقدسات الكنيسة الأرثوذكسية في الأراضي المقدسة لكل مصري في العالم أجمع، ورفعت أكثر من مئة دعوى قضائية أمام المحكمة العليا في تل أبيب ضد الحكومة الإسرائيلية وكسبتها، وأثبتت حقها في الدير، لكن سلطات الاحتلال ترفض التنفيذ حتى الآن.

أما الشق الثاني، فهو سياسي، ويتجاوز صلاحيات الكنيسة كمؤسسة دينية، ولا يحق لها الاتصال بدولة ما بعيدا عن القنوات الشرعية للدولة المصرية.

وتؤكد المعطيات الراهنة أن هذه المشكلة لن تنتهي إلا بخوض معركة سياسية جادة للحصول على اعتراف صریح وحاسم من الإثيوبيين بملكية الأقباط لدير السلطان ملكية مطلقة لا رجوع فيها أو التباس.

وعلى الحكومة المصرية تكثيف جهودها لدعم مطالب الكنيسة القبطية باستعادة الدير، وأن يتولى فريق قانوني ملم بأوراق القضية من بدايتها جمع نسخ الوثائق والدلائل والأحكام القضائية التي تثبت ملكية الأقباط وتعممها وزارة الخارجية على البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية، وإن اقتضى الأمر عرض المشكلة على محكمة العدل الدولية، ومهما كان قرارها يجب أن يلتزم به الإثيوبيون إذا كان في غير صالحهم، أما إذا جاء العكس فعلى الأقباط أن يلتزموا به أيضا لمنع حدوث المزيد من الأزمات.

13