معرض يستعيد أيقونة التشكيل الجزائري باية محيي الدين

لفتت الفنانة الجزائرية باية محيي الدين وهي لم تتعد بعد الستة عشر عاما أنظار كبار فناني المدرسة السريالية، مثل بابلو بيكاسو وهنري ماتيس، وهي إلى اليوم، ورغم رحيلها، تلفت أيضا انتباه المهتمين بالفن التشكيلي، منهم رواق “قسوم أنتيكيتي” الذي يحتفي بذكرى رحيلها في معرض بأهم لوحاتها.
الجزائر - إحياء للذكرى الخامسة والعشرين لوفاتها، يكرم رواق “قسوم أنتيكيتي” بالجزائر العاصمة أيقونة التشكيل الجزائري الراحلة باية محيي الدين (1931 – 1998) من خلال معرض فني يضم مجموعة ثرية من الأعمال الأصلية للفنانة التي بصمت مسيرتها الفنية بلوحات لاقت صدى على المستوى الوطني والعالمي بما تشع منها من عناصر تبرز خصوصيات التراث الجزائري وجمال المرأة والطبيعة.
ويشمل هذا المعرض التكريمي مجموعة متنوعة من اللوحات الفنية بأحجام مختلفة، وهي من أجمل ما أبدعت باية منذ أولى خطواتها في عالم الفن حتى وصول فنها مستوى العالمية، وتعكس مراحل مختلفة من مسارها الفني والأساليب والتقنيات والألوان التي استخدمتها لصياغة مشروعها الإبداعي الرائد الذي جعلها من بين أشهر التشكيليين الجزائريين في القرن العشرين، وقد استطاعت أن تجذب انتباه كبار الفنانين العالميين على غرار بابلو بيكاسو.
ويتيح المعرض للجمهور فرصة اكتشاف مجموعة ثرية من اللوحات الفنية والأعمال الخزفية (لم تحمل عناوين) تعج بالسحر، وتعكس عالما خياليا مفعما بالألوان ويزخر بالعصافير والطيور والفراشات ونساء يرتدين أزياء تقليدية ويحملن آلات موسيقية.
تتميز أيضا هذه الأعمال بأسلوب عفوي ينم عن بساطة هذه الفنانة العصامية، وهو ما سمح بالوقوف أمام نماذج مختلفة من تجربتها الفنية الممتدة لأكثر من 50 سنة كانت زاخرة بالأعمال والعطاءات الفنية التي نالت بها شهرة عالمية.
كما يكتشف الزائر في هذا الفضاء الفني نماذج أولية من الخزف تتمثل في قناع باللون الأزرق المائل إلى الرمادي وكذلك نموذج لمزهرية ذات نتوءات تعكس تحكمها في تقنية النحت مبكرا وهو ما تعلمته في ورشة بيكاسو الذي تعرفت عليه بعد معرضها الأول في باريس بفرنسا سنة 1947، إلى جانب نموذج لمهد صغير (سرير أطفال) تمت زخرفته بجمالية وخيال واسع بأنامل الفنانة باية.
وفي السياق ذاته يعرض الفنان التشكيلي منصف قيطة بمدخل المعرض ملصقة كبيرة تضم صورة للفنانة باية مؤثثة بقصيدة شعرية وكذلك لوحة بأنامله مستوحاة من عالمها السحري ويطغى عليها اللون الأزرق.
وفي هذا الإطار يوضح قيطة، الذي عرف باية عن قرب، أن هذا المعرض بمثابة “وقفة عرفان وتقدير لمساهمة الفنانة باية محيي الدين ونحن نحيي الذكرى 25 لوفاتها ودورها الرائد في إثراء الساحة الفنية الجزائرية والعالمية بإبداعها وصدقها الخالص وبما قدمته من بصمة نادرة وأصيلة في ممارستها الفنية”.
وأبرز المتحدث أن المعرض “يضم قرابة 30 لوحة أصلية ترجع إلى فترات مختلفة من مسارها الفني وتمت استعارتها من مجموعات خاصة لصديقات ومحبي الفنانة باية من الجزائر العاصمة الذين يمتلكون أعمالها، وهذا بهدف عرضها أمام الجمهور للتمعن فيها والإبحار في جمالها المتجدد المبهر”.
وأضاف الفنان أن مبادرة تنظيم هذا المعرض جاءت بالتعاون مع فنانين وأساتذة من ضمنهم صاحب الرواق جعفر قسوم وآخرون والذين أرادوا من خلال المعرض تقديم تكريم خاص واستحضار لروح هذه الفنانة التشكيلية التي قدمت الكثير للفن الجزائري.
من جهته أشار صاحب الرواق الفني، جعفر قسوم، إلى أن “المعرض مفتوح أمام الجمهور إلى غاية 21 ديسمبر المقبل، كما سيتم بالمناسبة إصدار كتاب جماعي نهاية شهر نوفمبر الجاري حول مسار هذه الفنانة العالمية وأيقونة الفن الجزائري، حفاظا على ذاكرتها و فنها الراقي”.
ولدت باية باسم فاطمة حداد عام 1931 في برج الكيفان، وهو حي ساحلي في مدينة الجزائر العاصمة، وتعتبر من مؤسسي فن التصوير الجزائري الحديث، وكانت ضمن مجموعة فناني “جيل 1930″، المُتكونة أيضا من الفنانين التشكيليين الآخرين مثل محمد أكسوح وعبدالله بن عنتر وعبدالقادر قرماز ومحمد إسياخم وسهيلة بلبحار ومحمد خدة وشكري مسلي.
شاركت باية في عدة معارض جماعية ببلدها الأصلي والدول العربية وأوروبا واليابان وكوبا والولايات المتحدة، وتوجد تحفها في متاحف شهيرة حول العالم، واعتمدت الجزائر لوحاتها على طوابع البريد. وعملها، ذو الإلهام الساذج، هو وفرة من النباتات وبهجة من الألوان الزاهية لخلق عالم سحري تسكنه الطيور والآلات الموسيقية والشخصيات النسائية بفساتين فخمة.
بدءا من معرضها الأول سنة 1947 احتلت باية مكانة مركّبة ضمن تاريخ الفن في القرن العشرين. وتسلط شهرتها المبكرة وشعبيتها الضوء على التداخل بين المستعمرين الفرنسيين في شمال أفريقيا والطليعة الفنية الأوروبية. واحتفى فنانون كثيرون معاصرون لها بأعمالها التي وصفت بالعفوية والفطرية والطفولية.
عقب استقلال الجزائر جرى تهميش باية في ساحة الرسم الرسمية التي كانت تفضل آنذاك الأسلوب الواقعي الاجتماعي. وقد وضعتها الدوائر الحكومية في أسفل سلم قوائم الفنانين التراتبي، ضمن مجموعة “رسامي التعبير الشعبي العفوي”، عوضا عن إدخالها في لائحة مجموعة “أوشام” التي كانت تنتمي إليها بالفعل، والتي أسستها مجموعة من الفنانين الجزائريين منهم دوني مارتيناز وشكري مسلي، وضمت محمد بن بغداد ومصطفى أكمون. وعرض أعضاء المجموعة أعمالهم معا من 1967 إلى 1971.
وتقول باية في حوار لها واصفة تجربتها الفنية “أنا أرسم لأنفس عما بداخلي. أنا أحب ملامسة الفرشاة. عندما نرسم والفرشاة في اليد، فإننا نهرب من كل شيء، إننا في عالم مختلف ونخلق كل ما أردنا خلقه. إنه مسار نوعا ما فردي. وأحبه، إنه ضرورة بالنسبة إلي عندما لا أرسم أحيانا لعدة أيام، فإن ذلك ينقصني ويجب أن أعود إليه”.
كما يسجل في تاريخها أن الفنان العالمي بابلو بيكاسو (1881 – 1973) أعجب بفنها وألوانها الزاهية، وكانت ثمرة هذا الإعجاب تعاونا في إنجاز عدة تحف جميلة. ولم يكن بيكاسو وحده الذي أعجب بأعمالها، ففي باريس انفتحت أمامها آفاق واسعة، وأصبحت وجها بارزا للفن المعاصر الجزائري والعالمي، هناك التقت جورج براك، وهو من مؤسسي المدرسة التكعيبية، وكتبت عنها مجلة “فوغ” الفرنسية ونشرت صورتها، واعترف بها الوسط السريالي.
أعمال الفنانة التي توفيت في العام 1998، معروضة الآن في الجزائر ومختلف بلدان العالم. وتم حفظ العديد منها في متاحف بقطر وسويسرا وفرنسا ومالي والعديد من المتاحف الجزائرية والمجموعات الخاصة.