معايير مزدوجة تلازم الخلاف الأميركي - الأوروبي مع تركيا

الفشل في محاسبة أنقرة يدفعها إلى مزيد انتهاك قواعد حلف شمال الأطلسي.
الأربعاء 2022/06/08
تركيا لا تبالي بأحد

تختلف الولايات المتحدة وأوروبا حول التعاطي مع الانتهاكات التي تمارسها تركيا بحق الأكراد منذ عقود، ولم تنجح سياساتهما حتى داخل حلف الناتو – وأنقرة عضو فيه – في ثنيها عن ملاحقة الأكراد بالسجن والقتل حتى خارج أراضيها، وصارت مؤخرا تفرض هذا الملف كشرط تعجيزي للموافقة على انتماء دول جديدة إلى الحلف، مؤكدة أنها لا تهتم لقواعد الحلف ولا تنساق إلا خلف أهدافها.

أدى تساهل الولايات المتحدة وأوروبا إزاء رفض تركيا منذ أمد بعيد احترام الحقوق العرقية والثقافية والسياسية الكردية إلى موقف أنقرة المعارض لعضوية فنلندا والسويد في الناتو.

وأثارت معارضة تركيا لهذا الانضمام جدلا حول مكانتها في حلف شمال الأطلسي. ويشير منتقدو تركيا إلى تدخلها العسكري الإشكالي في سوريا، وعلاقاتها مع روسيا، ورفضها معاقبة موسكو، وإذكاء التوتر المزعوم في شرق البحر المتوسط​، مما يجعل عضوية هذا البلد في الناتو موضع تساؤل.

ويلاحظ المدافعون عن تركيا أنها تمتلك ثاني أكبر جيش دائم لحلف الناتو، وأنها مفتاح الحفاظ على الجناح الجنوبي للحلف. كما أن جغرافية تركيا وحجم سكانها واقتصادها وقوتها العسكرية وروابطها الثقافية مع العالم تجعلها حلقة مهمّة بين أوروبا وآسيا. وإضافة إلى ذلك، لعبت الطائرات المسيّرة دورا حيويا في حرب أوكرانيا مع روسيا، بينما كانت تركيا وسيطا في الصراع، وإن كان ذلك بنجاح محدود.

ونادرا ما تُطرح الحقوق الكردية في النقاشات، وإذا حدث، فلا يكون ذلك سوى مجرّد وسيلة لتحميل تركيا مسؤولية انزلاقها نحو الاستبداد.

مشكلة بايدن وأوروبا أن مصداقيتهما ترتكز على التنظيف في الداخل والتأكد من أنه ينظر إليهما على أنهما مخلصان

ويُنظر إلى الأكراد، وهم مجموعة عرقية منتشرة في جميع أنحاء جنوب شرق تركيا وشمال العراق وشمال سوريا وغرب إيران، في أحسن الأحوال على أنهم طرف في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وفي أسوأ الأحوال على أنهم تهديد لأمن تركيا وسلامة أراضيها. ويشكل الأكراد في تركيا الذين يقدر عددهم بنحو 16 مليون نسمة ما يصل إلى 20 في المئة من سكان البلاد.

واستخدمت تركيا الحجة الأمنية لجعل موافقتها على عضوية السويد وفنلندا في الناتو تعتمد على قبول دولتي الشمال الأوروبي بشكل فعال تعريفها للإرهاب على أنه يشمل أيّ تعبير قومي عن الهوية الكردية.

وطالبت تركيا السويد وفنلندا بتسليم 33 شخصا، بعضهم سويديون أو فنلنديون، بسبب دعمهم المفترض لحزب العمال الكردستاني أو الداعية المنفي فتح الله غولن، الذي يحمّله الرئيس رجب طيب أردوغان المسؤولية في محاولة الانقلاب سنة 2016.

وتتهم تركيا السويد وفنلندا بالسماح لحزب العمال الكردستاني بالعمل على أراضيهما. وكانت تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صنفت حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية بسبب قيادته تمردا منذ عقود في تركيا قُتل فيه عشرات الآلاف.

وتريد تركيا أيضا أن تدعم السويد وفنلندا عمليتها العسكرية ضد وحدات حماية الشعب، وهي جماعة كردية سورية مدعومة من الولايات المتحدة لعبت دورا حاسما في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. وتؤكد تركيا أن وحدات حماية الشعب هي امتداد لحزب العمال الكردستاني.

وأعلن أردوغان مؤخرا أن تركيا ستطلق عملية عسكرية جديدة لتوسيع مناطق سيطرة القوات المسلحة التركية في سوريا على مساحة 30 كيلومترا من الأرض على طول الحدود المشتركة بين البلدين. وسيستهدف الهجوم وحدات حماية الشعب في بلدات تل رفعت ومنبج وربما كوباني وعين عيسى وتل تمر.

نادرا ما تُطرح الحقوق الكردية في النقاشات
نادرا ما تُطرح الحقوق الكردية في النقاشات

وأدى الإخفاق الأميركي والأوروبي السابق في الدفاع عن الحقوق الكردية، كجزء من حاجة تركيا إلى الوفاء بمعايير عضوية الناتو التي تشمل “المعاملة العادلة للأقليات”، إلى تعقيد القتال ضد تنظيم داعش، وإحباط التطلعات الكردية خارج حدود تركيا وقمع الحقوق الكردية في تركيا.

ومكّن الفشل في محاسبة تركيا على قمعها للحقوق العرقية والسياسية الكردية في إطار الدولة التركية أنقرة من وضع سياسات تركية كشرط لعضوية الناتو حتى لو انتهكت معايير العضوية في حلف شمال الأطلسي.

وتشمل تلك السياسات تعريف التعبير السلمي عن الهوية الكردية على أنه إرهاب وتراجع اللغة الكردية والحقوق الثقافية منذ انهيار محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني في 2015. ورفعت تركيا الحظر المفروض على اللغة الكردية وكلمة كردي في 1991. وحتى ذلك الحين، كان يُشار إلى الأكراد باسم “أتراك الجبل”.

وكنت ممن أجبرهم حاكم محافظة ديار بكر الواقعة في جنوب شرق تركيا، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها مركز للنشاط الثقافي والسياسي الكردي، على مغادرة المنطقة تحت التهديد بالقتل لاستخدامي كلمة كردي بدلا من عبارة “أتراك الجبل” في مقابلات أجريتها في الثمانينات من القرن العشرين.

وتضاءلت برامج اللغة الكردية في الجامعات في السنوات الأخيرة وسط عقبات إدارية، فيما يشتكي الآباء الأكراد من ضغوط لعدم تسجيل أطفالهم في دورات اختيارية كردية.

وتوقّفت معظم الخدمات والأنشطة باللغة الكردية التي أنشأتها الإدارات المحلية بأوامر من الأمناء الذين عينتهم الحكومة ليحلوا محل العشرات من رؤساء البلديات الأكراد الذين أطاحت بهم أنقرة بزعم صلاتهم بحزب العمال الكردستاني. ولا يزال العديد من رؤساء البلديات المخلوعين وغيرهم من السياسيين الأكراد البارزين خلف القضبان.

الفشل في محاسبة تركيا على قمعها للحقوق الكردية مكّن أنقرة من وضع سياسات تركية كشرط لعضوية الناتو

ويكتسب الفشل في تحمل تركيا في وقت مبكر أهمية إضافية في الوقت الذي يصور فيه الناتو الحرب في أوكرانيا على أنها معركة القيم والديمقراطية مقابل الاستبداد التي ستشكل ملامح النظام العالمي للقرن الحادي والعشرين.

وسعى الرئيس الأميركي جو بايدن، في أعقاب رئاسة دونالد ترامب الذي تخلى عن الليبرالية الأميركية، إلى استعادة المكانة الأخلاقية العالية بإعلانه أن “أميركا عادت” إلى النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان.

لكن مشكلة بايدن وأوروبا هي أن مصداقيتها ترتكز على التنظيف في الداخل والتأكد من أنه ينظر إليهما على أنهما مخلصان وليسا منافقين.

وتبقى هذه مهمة صعبة وسط تأكيدات العنصرية البنيوية على جانبي المحيط الأطلسي مع الجدل حول ملكية السلاح في الولايات المتحدة والترتيبات التفضيلية للاجئين الأوكرانيين على عكس غير الأوروبيين وغير البيض الفارين من الحرب والاضطهاد والدمار والسياسات الخارجية التي تتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان والحقوق السياسية بشكل مختلف اعتمادا على من يرتكبها.

ويصبح المنطلق هو الداخل. ويمكن أن يكون الأكراد نقطة انطلاق أخرى، مع عضوية فنلندا والسويد في الناتو في المقدمة. فتلبية المطالب التركية بخصوص مرتكبي العنف السياسي شيء والإذعان لتجريم التعبير السياسي والثقافي الكردي الشرعي شيء آخر.

وقد تكون هذه صفقة صعبة بالنسبة إلى أنقرة. لكنها تقدم صيغة حل وسط يمكن أن تخدم مصلحة الجميع وتساعد تركيا على حل مشكلة قد تكون واحدة من براميل البارود المتفجرة المتعددة في الشرق الأوسط.

7