مطاع صفدي ناقد الفكر الغربي
عرفت الراحل مطاع صفدي أول ما عرفته من خلال أعماله الأدبية، التي كانت تجيئنا من بيروت في أواسط سبعينات القرن العشرين ، كروايتي “جيل القدر” و”ثائر محترف”، ثم عرفته من خلال مجلة “الفكر العربي المعاصر” التي كان يرأس تحريرها، ولم ألتق به مباشرة إلا مرتين، الأولى في بغداد إبان أحد مهرجانات المربد، والثانية في مقهى باريسي قرب معهد العالم العربي، استمعت له في الحالين أكثر مما تحدثت، لرغبتي في تبين دوافع تنقله من الأدب إلى الفكر، ودوافع انتقاله لاحقا من الاستئناس بالحداثة الغربية -وكان مولعا فيما قرأت له بوجودية سارتر، وبمفكرين تقدميين آخرين كبورديو ودريدا ودولوز- إلى نقدها والدعوة إلى تجاوزها.
فأما الجانب الأول، فكان مستندا إلى نزعة قومية عروبية، ذات منحى بعثي، شأنه في ذلك شأن جيل فتح عينيه على رحيل الاستعمار، وتاق إلى بناء دولة وطنية عصرية مستقلة في قرارها، تستفيد من الطاقات الكامنة في كل أنحاء الوطن العربي، سواء كانت ثروات طبيعية أو بشرية. ومن ثَمَّ جاءت دعوة ذلك الجيل إلى نوع من الوجودية العربية حتى تعي المجتمعات ما ينبغي عليها فعله كي تمسك بأسباب الحداثة، مشفوعة بدعوة إلى الالتزام بقضايا الأمة، لا سيما بعد التحولات السياسية التي سببتها هزيمة يونيو 1967 ووصول العسكر إلى السلطة في أكثر من قطر عربي، وتردّي الحريات. وهذه الوجودية لا يمكن أن تتحقق في غياب الحرية. أي أنها في النهاية قضايا تشغل الأديب مثلما تشغل المفكر. كما يتبدى جليا منذ كتابه “الثورة في التجربة”.
وأما الجانب الثاني، وإن بدأ بتبني الحداثة الغربية وتَمثّل عناصرها التنويرية، فإنه لم يغفل أيضا عمّا لا يستقيم فيها مع مجتمعاتنا العربية، لأنها أولا نشأت في مجتمعات تخالف مجتمعاتنا ولا يمكن أن تكون أنموذجا يحتذى بغير غربلة فكرية نقدية تأخذ من الحداثة الغربية ما ينفع ويستبعد منها ما لا يناسب، ولأنها ثانيا كانت بدورها ثورة على أصنامها نفسها، نلمس ذلك خاصة في كتابه “نقد العقل الغربي-الحداثة ما بعد الحداثة”. هذا المنعطف، وإن بدا في ظاهره نقدا للفكر الغربي وحداثته وما بعد حداثته، شكّل مدخلا لنقد العقل العربي القاصر عن قراءة الحاضر في علاقته بماض أثيل أنجب ثلة من المفكرين والعلماء والمخترعين في كل مجال، واستشراف مستقبل تستعيد فيه الأمة العربية طاقاتها الخلاقة.
يقول مؤسس مركز الإنماء القومي “عند هذا المنعطف يصير النقد الغربي هو نقد العقل العربي، لأننا نقرأ فيه ما كان ينبغي لنا أن نكتبه لو لم تسرق منّا أقلامنا، وتمزق صحفنا، ونقذف بأنفسنا إلى قبو العالم. نحكم إغلاق أبوابه، نرمي بمفاتيحه إلى رياح الصحارى، ثم نقضي العمر في انتظار عودة ذات النفس، لكن بدون نفس”.
ورغم المرارة التي كنا نلمسها في مقالات دأب على نشرها بجريدة القدس العربي، فإن الراحل لم يأل جهدا في تحليل الأوضاع التي عقبت الحرب الأميركية على العراق، والتنبيه إلى مزالق المرحلة، والتذكير بما ينبغي أن تتحلى به الأطراف العربية للخروج من أزمة ما فتئت تستفحل، يقول ذلك بحس القومي العربي المسكون بمصير أمته.
كاتب من تونس مقيم بباريس