مضيعة الوقت الليبية

على الرغم من أن كل الأطراف الليبية تتحدث عن حل الخلافات عن طريق الحوار، فالحقيقة هي أنها تقول ذلك من أجل إطالة أمد الأزمة، وليس من أجل حلها. فكلما زادت الحوارات، كلما كسبت تلك الأطراف المزيد من الوقت لكي تحافظ على سلطتها في البلاد.
مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز هي أكثر من يعرف هذه الحقيقة. إلا أنها هي الأخرى تستفيد من إجراء حوارات طويلة وفارغة ولا تؤدي إلى نتائج فعلية.
لقد رأت رؤيا العين أنه دائما ما تظهر عراقيل، ودائما ما تحدث خلافات لا يمكن حلها، حتى ولو على نقطة واحدة أو نقطتين. وسرعان ما يمضي الحوار الذي “حقق التوافق” حول المليون نقطة أخرى إلى مزبلة النسيان. ثم يعاد إجراء جولة حوار جديدة، وهكذا إلى يوم يبعثون.
ويليامز نفسها تعرف أيضا أنها قادت حوارات فاسدة، وأسفرت عن نتيجة فاسدة عندما شكلت منتدى خاصا للحوار ومضت لنحو عام كامل بين تونس وجنيف، وهي تجري تدريبات لتحسين قدرتها على التحدث باللغة العربية. وكان ذلك هو الشيء الوحيد الذي حققه أبوجهل بأن كسب ناطقا إضافيا بهذه اللغة. وعدا ذلك، فإن المتحاورين في “منتدى الحوار الليبي” تبادلوا الرشاوى تحت مرأى ومسمع ويليامز، ولم تجرؤ على القول إن الأمر كله فاسد.
أما الليبيون فقد كسبوا حكومة ميليشيات يقودها عبدالحميد الدبيبة، وكأنهم كانوا بحاجة إلى واحدة أخرى في طرابلس، تكمل ما بدأته سابقاتها. ولئن كان إجراء انتخابات هو المهمة الأولى والأهم لهذه الحكومة، إلا أنها عندما حان الوقت، نجحت في تعطيلها وإفسادها بالطعون وكثرة المرشحين. ولكي يتأكد الدبيبة من فساد الانتخابات فقد ترشح لها، رغم أن وثيقة تكليفه كانت تنص على أنه وجميع أعضاء حكومته لن يشاركوا في الانتخابات. وكان غرض الدبيبة من الترشيح ليس الأمل بالفوز، وإنما إفساد الانتخابات من قبل أن تحصل. وعندما انتهت مهمته، من ناحية الوقت، فقد تمسك بالسلطة، قائلا إنه لن يُسلمها إلا إلى حكومة منتخبة. و”موت يا حمار…” حتى تأتي تلك الحكومة المنتخبة.
ومضت ويليامز في جولة أخرى لحسم المسار الدستوري في اجتماعات وتحضيرات دامت نحو أسبوع في القاهرة، تم خلالها -كالعادة- حسم مليون قضية، ولكن بقيت “قضايا خلافية” تنتظر تحقيق الشعار نفسه “موت يا حمار..” حتى يتم التوافق عليها بين رئيسي مجلس الدولة ومجلس النواب.
ويليامز نفسها تعرف أنها قادت حوارات فاسدة، وأسفرت عن نتيجة فاسدة عندما شكلت منتدى خاصا للحوار ومضت لنحو عام كامل بين تونس وجنيف، وهي تجري تدريبات لتحسين قدرتها على التحدث باللغة العربية
يظن المسؤولون الليبيون من كلا طرفي الأزمة أنهم قادرون، بهذه اللعبة، أن يستغبوا الناس بالظهور بمظهر الراغب بالحوار. ولكن ما من شيء على امتداد هذه التجربة إلا ويثبت أنهم فقط راغبون بالبقاء في مواقعهم. وأنهم مستعدون للتحاور لمئة عام، من دون أن يتوصلوا إلى نتيجة.
ولا يوجد مكتب مراهنات لكي يضع المرء رهانه على “موت الحمار” قبل أن يتوصل الليبيون إلى اتفاق. إلا أن الحقيقة هي أنهم لن يتوصلوا إليه أبدا. يكفي فقط أن تنظر إلى اللغة التي يتحدث بها الميليشياويون عن الطرف الآخر، وستعرف لماذا أن التوصل إلى اتفاق مستحيل. وحتى لو تم التوصل إلى اتفاق على الورق، فإنه لن ينفذ على أرض الواقع.
هذا ما توعد به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ انهارت حكومة فايز السراج. ومنذ أن تحقق “الإجماع” المزعوم على إخراج المرتزقة والقوات التركية من ليبيا. لقد سخر أردوغان من هذا الإجماع. وقال إنه لن يُنفذ، وهو ما حصل بالفعل. مسح الليبيون أحذيتهم بما “أجمعوا” عليه. وتحول الأمر إلى مسلسل سخرية بالذين ظلوا يعتقدون أن “الإجماع” يمكن أن يعني تغييرا في الوجهة.
ويليامز ربما تبحث عن إجماع آخر. ولكن النتيجة لن تتغير. ليس لأن هناك قوات تركية لا تريد أن ترحل، ولا تريد للظروف أن تتوفر لكي ترحل، بل لأن هناك أطرافا تجد مصلحة في استمرار الحوار إلى الأبد. إنه شيء ممتع من دون شك. كما أنه شيء يجعل كل صعلوك ورعاعي يشعر بأنه أصبح يمتلك أهمية دولية، ومركزا تلتفت إليه الأنظار، ومستشارة أمين عام للأمم المتحدة تتواصل معه من أجل التوصل إلى “تسوية”. يعني، شيء مهم، يتيح للشخص المعني بأن ينام ليلته، وهو يفكر بسبل “التسوية”، أي تسويتها بالأرض.
وما هذه كلها إلا مضيعة وقت. ومن المؤسف أن يتورط بها “المجتمع الدولي” من دون وعي.
لقد كان بإمكان البعثات الدولية أن تحقق نتائج أفضل لو أنها استعانت بأخصائيين في الطب النفسي. لأنهم كانوا سوف يدركون سريعا كيف أن نزعة التسويف والمماطلة هي التي تخوض الحوار من أجل متعة الحوار نفسه، وليس من أجل التوصل إلى حل فعلا. أو أنها، بمعنى آخر، تمارين هذيان، لا تقصد ما تقول.
وهناك طريقان للانتهاء من هذه المهزلة.
الأول، سلمي، تتولاه الأمم المتحدة، لو أنها لا تريد أن تقتصر مهمتها على تدريب مبعوثيها لتحسين لغتهم العربية، وهو قطع الإمدادات عن كلا طرفي الأزمة. والمال هو أول هذه الإمدادات. فحالما يدرك الجميع أنهم ينفقون من جيوبهم على رحلات الحوار، وأنهم لا يملكون المال للإنفاق على ميليشياتهم، فسوف يتوقفون عن العبث والصعلكة.
وقطع الإمدادات يجب أن يشمل متابعة الحصار على الموانئ الليبية لمنع المزيد من إمدادات الأسلحة. وهناك قرار دولي بهذا المعنى (2578) يتوجب أن يُحترم. وحيث أن الأمم المتحدة تعرف مصادر التمويل، فإنها يتوجب أن تسارع إلى تطويقها.
والثاني، أكثر سلمية من الأول، وهو أن تترك الأمم المتحدة طرفي النزاع، بعد قطع إمدادات المال والسلاح، لكي يخوضا القتال ضد بعضهما، حتى آخر طلقة. بلا أي محاولات لوقف إطلاق النار، ولا عودة إلى خدعة “الحوار” حتى ولو بلغ الصراخ عنان السماء، ومن دون أن يتقدم أحد لجمع الجثث أو دفنها، لكي تتفسخ على نحو ما تفسخت أخلاق المتنازعين.
الحل، حينئذ، سوف يظهر من تلقاء نفسه.