مصممون على التفاؤل
رغبتُ يوما في ركوب البحر من الساحل السوري إلى غزة، وكان ذلك من اختياري وعن سابق إصرار. اختمرتْ الفكرة وتدبّرتُ وسائل ولوازم الشروع فيها.
غادرت موضعي على شاطئ بحر صور الفينيقية العريقة في جنوبي لبنان، قاصدا موضع الانطلاق من نقطة على الساحل السوري.
كنت مع صديقي الذي أدار مؤشر مذياع السيارة، لنستمع معا إلى وقائع حفل لعبدالحليم حافظ، سيقدم فيه أغنية جديدة، وكنا في مايو 1971. لكن الأغنية التي جاءتنا عبر الأثير، لم تكن مشجعة على الإبحار، ليس لكونها تبدأ بعبارة يتوجع معها المطرب قائلا “موعود معايا بالعذاب”. فللمحب كل الحق في أن يتعذب، ولا شأن لنا بعذابه.
غير أن السياق وصل إلى ذروة الاحتدام، عندما وصل عبدالحليم إلى سياق أشبه بسياقي “وابتدا ابتدا المشوار، وآه يا خوفي من آخر المشوار.. جنة ولا نار”.
في تلك اللحظة هجم التَطيُّر وبدأت أقاومه. فأنا من أمة ذات ثقافة اعتمدت التطيّر أو التشاؤم. فقد كان العرب الأقدمون يزجرون الطيور من أمكانها، فإن اتجهت يمنيا استبشروا، وإن اتجهت يسارا تشاءموا. كان قلقهم حيال الآتي، يبعث الرغبة الجامحة في معرفة المُخبأ لهم.
لحظتئذٍ، وفيما أنا أحاول دفع التطيُّر، استذكرت حكاية روسية عن طيار عسكري في الحرب العظمى الثانية، انطلق على المدرج لكي يطير ويشتبك، فاعترضته قبل لحظة من الإقلاع مجموعة من الأرانب البرية، تمر مسرعة، فأحجم عن رفع طائرته. ولما سأله آمر القاعدة عن سبب توقفه قال “لقد مرت مسرعة من أمامي مجموعة من الأرانب البرية، وهذا كما تعلمون يا سيدي نذير شؤم في حكاياتنا الشعبية”.
استمع القائد المحنّك إليه واحتار في اتخاذ قراره أو في طريقة المعالجة، فإن أمره بالطيران، سيخشى عليه من الوصول إلى نقطة الاشتباك مسكونا بتشاؤمه فيسقط، وإن أمره بالاستراحة فإن الحكاية ستُعتمد، بحيث تتكفل الأرانب بإحباط العمليات.
كان قراره أشبه بالمعالجة النفسية: قراري أن تلتحق بمطبخ القاعدة، لكي تعمل لأسبوع كامل في تقشير البصل والبطاطا، فإن هذا هو العمل الذي يصلح لك الآن”. وهكذا كان.
تقول الحكاية إن زملاءه الطيارين كانوا بعد العودة من طلعاتهم يمرون على المطبخ ويسخرون منه، فظل يُعد الساعات المتبقية على نهاية الأسبوع. وبعد أن عاد إلى طائرته يقول الروس في الختام، إنه قد أصبح من أبطال الحرب.
قاومت بؤس الأغنية وركبت البحر. انكسر القارب وأعيانا الموج ووقعت في الأسر، لكنني ظللت متفائلا.