مصر تفتح الطريق أمام منظمات المجتمع المدني بقواعد محسوبة

تسوية قضايا التمويلات الأجنبية خطوة لتحسين العلاقات مع قوى ومنظمات حقوقية دولية.
الخميس 2020/12/10
المجتمع المدني ضرورة اجتماعية

يهيمن ملف الجمعيات الأهلية في مصر على غيره من الملفات الساخنة، وأصبح في صدارة القضايا التي تمثل صداعا للحكومة في الوقت الحاضر، ويبدو أنه سيكون إحدى القضايا المطروحة في الكثير من المناسبات مستقبلا، لذلك تجتهد القاهرة في تطويق النيران التي يمكن أن تتسرب منه بإدخال تعديلات على الواقع الرمادي، الذي يدور في فلكه، ومحاولة توصيل وجهة نظرها للعالم، والمختلفة عن الكثير من التقييمات التي تقدمها منظمات حقوقية.

القاهرة – كشفت حزمة قرارات لتسوية قضايا قديمة لمنظمات المجتمع المدني في مصر عن بوادر توجه عام لإحداث انفراجة في الملف الحقوقي المزعج، لا تخلو من خطوات صارمة، حيث شهد على مدى السنوات العشر الأخيرة تراوحا بين شد وجذب وصل إلى حد تعديل قانون العمل الأهلي مرتين، والآن بات مطروحا على الطاولة.

وشملت القرارات القضائية الأخيرة الإفراج عن أعضاء المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعد أسبوعين من حبسهم احتياطيا، بينما تم إصدار حكم نهائي في قضية التمويل الأجنبي الكبرى، رقم 173 لسنة 2011، والمتهم فيها نشطاء مصريون وأجانب.

وخلص الحكم القضائي إلى عدم وجود وجه لإقامة الدعوى ضد 20 منظمة حقوقية، بسبب ما اعتبره قاضي التحقيقات عدم ثبوت الجريمة تجاه ستة منها، وعدم كفاية الأدلة تجاه 14 جمعية أخرى.

وفي حين تحاول الكثير من المنظمات الحقوقية تسييس الملف، تتصدى القاهرة لذلك، وتقزم هذا المنحى الذي يستهدف متابعة ما تقوم به من ممارسات في مجال الحريات العامة، وتريد وضعه في إطار قانوني، لنزع الفتيل الذي يزعجها كلما جاء الحديث عنه، والإيحاء بأن تحركاتها الإيجابية تأتي دون ضغوط خارجية، ونابعة من إرادتها الداخلية فقط.

وأكد بيان لقاضي التحقيق أن القضاة المتعاقبين على القضية رقم 173 بذلوا جهودا كبيرة للوقوف بدقة على صحة ما هو منسوب لكل منظمة أو كيان أو جمعية محل التحقيق، وجمعوا المعلومات المتوافرة لدى الجهات ذات الصلة، وتجاوزت أوراق القضية 20 ألف ورقة لتنتهي إلى تسوية القضية، في إشارة إلى أن توقيت غلقها لا علاقة له بأي مستجدات إقليمية أو دولية.

المثير أن هذا القرار صاحبه إلغاء منع عدد من العاملين في تلك المنظمات الحقوقية من السفر، وعدم التحفظ على أموالهم، وبينهم أشخاص معروفون بتوجهاتهم السياسية المناهضة للحكومة.

نقطة ومن أول السطر

قضية المجتمع المدني إحدى المشكلات المعقدة أمام تحسن العلاقات السياسية مع مصر
قضية المجتمع المدني إحدى المشكلات المعقدة أمام تحسن العلاقات السياسية مع مصر

يشير تزامن تسوية القضية مع وصول إدارة أميركية جديدة بقيادة جو بايدن، إلى رغبة واضحة لدى الحكومة في فتح صفحة جديدة مع الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، الذي يرى قضية المجتمع المدني إحدى المشكلات المعقدة أمام تحسن العلاقات السياسية مع مصر.

غير أن مراقبين اعتبروا الربط بين التحركات الإيجابية تجاه المجتمع المدني وتغير الإدارة الأميركية غير دقيق تماما، لأن ما انتهت إليه قضية المجتمع المدني الكبرى لا علاقة له بوصول بايدن للحكم.

واستدل هؤلاء على ذلك الرأي بإيمانهم الراسخ باستقلال القضاء المصري، والتأكيد أن هناك رغبة لتصحيح مسار المجتمع المدني ككل، بدليل تراجع الحكومة عن قانون الجمعيات الأهلية الصادر منذ ثلاث سنوات، المعروف بالقانون رقم 70 لسنة 2017، وإقرار آخر برقم 149 لسنة 2019.

القاهرة تسعى للتأكيد على أن لديها رؤية خاصة للتعامل مع المجتمع المدني يتم ترتيبها والإعلان عن توقيتاتها وفقا للمصالح بعيدا عن أي ضغوط خارجية

وتسعى القاهرة للتأكيد على أن لديها رؤية خاصة للتعامل مع المجتمع المدني يتم ترتيبها والإعلان عن توقيتاتها وفقا للمصالح بعيدا عن أي ضغوط خارجية، ويتم العمل عليها، ولا علاقة لها بتغييرات أو تطورات هنا أو هناك.

ويبدو هذا الطرح مقبولا، في ظل وجود نوايا ومبادرات لفتح المجال أمام المجتمع المدني لممارسة دوره المنوط به، لكن دون زعزعة لثوابت الأمن القومي، غير أن الزخم الذي شهده الملف الحقوقي والذي تزامن مع التغير الحاصل في واشنطن، وفر أسبابا قوية للربط بينهما بلا جدال.

وعندما صدر قانون 2017 كاد أن يحظر العمل الأهلي تماما بما وضعه من قيود بيروقراطية وأمنية على عمل الجمعيات الأهلية، لكن الاستجابة لمطالب المجتمع المدني لتعديله أكدت أن الحكومة لديها استعداد لفتح مسار طبيعي للعمل الأهلي، وفق قواعد واشتراطات واضحة.

ونص القانون رقم 149 صراحة على جواز تلقي أي جمعية أهلية تمويلا نقديا من جهات مصرية أو أجنبية مرخص لها بالعمل، مع إلزام كافة الجمعيات باحترام الدستور والقوانين وعدم الإخلال بالأمن القومي والنظام والآداب العامة.

واشترطت مواد القانون الجديد أن يكون نشاط المنظمة الأجنبية غير الحكومية المصرح لها به متفقا مع أولويات واحتياجات المجتمع وفقا لخطط التنمية، بغرض تضييق هامش المناورة على جمعيات لها أجندات سياسية. ويجوز للحكومة في جميع الأحوال إلغاء التصريح الخاص بأي منظمة مدنية أجنبية لأسباب تتعلق بتهديد الأمن القومي أو السلامة العامة.

ويتبقى صدور اللائحة التنفيذية لقانون الجمعيات، التي ضغطت الكثير من المنظمات الحقوقية المحلية للتعجيل بصدورها، هو الفيصل في تحديد البوصلة للفترة المقبلة، فإذا راعت التحفظات السابقة وأوجدت فضاء جيدا للعمل يمكن أن تهدأ العاصفة، بينما إذا حوت إجراءات تقوض العمل الأهلي سيظل الملف مفتوحا على مصراعيه عند كل محك مصري.

سوابق سلبية

مصر اتخذت مجموعة كبيرة من الإجراءات لكسر أذرع الجمعيات الأهلية صاحبة الأهداف السياسية.
مصر اتخذت مجموعة كبيرة من الإجراءات لكسر أذرع الجمعيات الأهلية صاحبة الأهداف السياسية

ينطلق تصور الحكومة المصرية الحاسم مع منظمات المجتمع المدني من وجود سوابق، رأت فيها تدخلا سافرا مقصودا ومتعمدا وصريحا تحت لافتة المجتمع المدني لأحداث تغييرات سياسية كبيرة.

وقدم بعض المسؤولين في مصر شهادات دالة على استخدام ورقة الجمعيات الأهلية الممولة لدعم التغيير في مصر، ودول “الربيع العربي”، وكان في تصورهم أن تلك السياسة قائمة ومعلنة ومعمول بها في بعض الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة، لكنها تطورت في ما بعد.

وقال أحمد أبوالغيط، أمين عام جامعة الدول العربية حاليا، ووزير الخارجية المصري الأسبق في كتابه “شهادتي”، إن “عام 2005 وما تلاه شهد قيام الولايات المتحدة بتوجيه المعونة الاقتصادية المقدمة لمصر لمنظمات المجتمع المدني، وبدأت المبالغ في حدود 25 مليون دولار سنويا ثم زادت بعد ذلك إلى 50 مليون دولار”، وقد أبلغ الرئيس الراحل حسني مبارك أن هذه المبالغ أكبر من التدريب على مراقبة الانتخابات وربما تخفي أهدافا أكبر.

وأوضح أن وزارة الخارجية لم تترك مناسبة إلا وقامت بالاحتجاج لدى الجانب الأميركي بضرورة وقف نشاط هذه الهيئات دون طائل، بل إنها أكدت أنها ستمضي في عملياتها دون توقف حتى لو اعترضت السلطات المصرية، وستفرض التغيير في البلاد.

وخلص الرجل إلى أن مذكرات كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية سابقا أكدت صحة ما تصوره بشأن الإنفاق على المجتمع المدني لزعزعة الاستقرار في مصر.

وزير التموين المصري السابق جودة عبدالخالق أشار في كتابه “من الميدان إلى الديوان” إلى أن التمويل الأجنبي للمجتمع المدني لم يكن سوى نوع من الهيمنة والتدخل في شؤون الدولة
وزير التموين المصري السابق جودة عبدالخالق أشار في كتابه “من الميدان إلى الديوان” إلى أن التمويل الأجنبي للمجتمع المدني لم يكن سوى نوع من الهيمنة والتدخل في شؤون الدولة

وعززت قناعات السياسيين المخاوف التي نبهت إليها مبكرا الأجهزة الأمنية في مصر، ما جعل الدولة بعد ثورة 30 يونيو 2013 والتي أزاحت الإخوان من الحكم، تتخذ مجموعة كبيرة من الإجراءات لكسر أذرع الجمعيات الأهلية صاحبة الأهداف السياسية.

وقدّم جودة عبدالخالق وزير التموين والعدالة الاجتماعية بمصر سابقا شهادة أخرى في كتابه “من الميدان إلى الديوان.. مذكرات وزير في زمن الثورة” أشار فيها إلى أن التمويل الأجنبي للمجتمع المدني لم يكن سوى نوع من الهيمنة والتدخل السافر في شؤون البلاد، وأن الكثير من الجمعيات الأهلية أثرت ثراء كبيرا بسبب تلقيها أموالا أجنبية.

ويحصر البعض نشاط الجمعيات في الشق المدني فقط، بينما أثبتت التحريات الأمنية أن الشق الديني فيها لا يقل خطورة، وربما يفوق، لأنه يتغلغل بسهولة في قاع المجتمع، بينما تظل المدنية محصورة في النخبة وتوجهاتها السياسية.

وكشفت معلومات رسمية أن جمعية “أنصار السنة المحمدية” في مصر تلقت منحة قطرية قدرها 38 مليون دولار في فبراير 2011، وأن بعض مساجد تلك الجمعية يتم تخرين الأسلحة فيها.

وما رواه الوزيران السابقان، يؤكد أن هناك خطرا داهما كان يتطلب درجة عالية من الوعي والرقابة، لأن مفهوم الأمن القومي الذي ظهر في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية تطور كثيرا وتجاوز نطاق المفهوم العسكري ليشمل التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية المحتملة.

ورغم وجود مخاوف مشروعة لدى الحكومات والتيارات الوطنية بخصوص المجتمع المدني، فإن هناك تصورا لدى بعض دوائر السلطة يرى إمكانية تيسير عمل المنظمات بخطوات محسوبة تحفظ للأمن القومي اعتباراته، وتجعل الدولة قادرة على وقف عمل أي منظمات تخرج عن الإطار القانوني المنصوص عليه.

ويثمن هؤلاء دور وأهمية المجتمع المدني، بغض النظر عن الشكل الحضاري أو العلاقات الدولية، فهو قادر على تحقيق الرقابة، وضامن لحقوق الأفراد على مختلف انتماءاتهم وأعراقهم فى مواجهة التنظيمات والجماعات الكبيرة، ويساعد الدول الأقل غنى على مواجهة الأعباء الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمواطنين.

الأشرار والأخيار

معظم المنظمات الحقوقية لديها وحدات للتحليل والاستطلاع لرصد مشكلات المجتمع واتجاهاتها
معظم المنظمات الحقوقية لديها وحدات للتحليل والاستطلاع لرصد مشكلات المجتمع واتجاهاتها

منظمات المجتمع المدني ليست كلها شرا في مصر، فهي تهتم أيضا بحقوق الإنسان في السكن والتعليم والصحة والعمل، وتلعب أدوارا مهمة في كل هذه الملفات في توفير الخدمات الصحية والتعليمية والتشغيلية، ما يعني تخفيف الضغوط على النظام السياسي القائم الممثل في الحكومة.

كما أن لها باعا في القيام بالأعمال البحثية والاستقصائية، فمعظم المنظمات الحقوقية لديها وحدات للتحليل والاستطلاع لرصد مشكلات المجتمع واتجاهاتها.

ولذلك فالخوف من منظمات المجتمع المدني قد يكون من المبالغ فيه، خاصة أن ظروف اتهام المنظمات الحقوقية عقب احتجاجات يناير 2011 بمسؤوليتها عن التظاهرات العارمة وما تبعها من سيولة سياسية وفوضى كان محل تعجل وارتباك لدى الأجهزة المصرية في ذلك الوقت، والتي واجهت بالفعل ظروفا استثنائية وتحركات غير مسبوقة.

وأوضح زياد بهاءالدين، وهو حقوقي ووزير سابق تولى وزارة التعاون الدولي عام 2013، أن المجتمع المدني شريك أساسي في التنمية وفي صنع القرار ومصدر للموارد والجهود والأفكار التي تدعم برامج الحكومة التنموية، سواء أكان ذلك في مجال الحد من الفقر أو تحسين الخدمات العامة أو نشر الوعي بقيم العدالة والمساواة والمواطنة.

باتت هناك حاجة ماسة لمصالحة أكثر شمولا تعيد توضيح طبيعة الدور الذي يمارسه المجتمع والقيمة المضافة الهائلة التي بمقدوره أن يقدمها

وذكر في مقال بجريدة “الشروق” المحلية أن تشجيع المجتمع المدني ضرورة في ظل وجود قوانين وجهات رقابية تراقب النشاط الأهلي وتتابع التمويل الوارد إليه من الخارج، لكن بشكل حديث ومتوازن لا يؤدي لتضييق الخناق عليه إلى الحد الذى يحرم البلد من الإضافة التي يقدمها للمجتمع.

وباتت هناك حاجة ماسة لمصالحة أكثر شمولا تعيد توضيح طبيعة الدور الذي يمارسه المجتمع والقيمة المضافة الهائلة التي بمقدوره أن يقدمها.

وعرفت مصر المنظمات الأهلية منذ القرن التاسع عشر، حيث نشأت أول جمعية أهلية في العام 1821 باسم الجمعية اليونانية بالإسكندرية، وبعدها توالى تأسيس الجمعيات، وازدهرت، وزاد عددها مع اعتراف دستور 1923 بحق المصريين في التجمع وتكوين جمعيات، وارتفع عددها من 159 جمعية في الفترة ما بين عامي 1900 و1924 إلى 633 جمعية في الفترة بين 1925 و1944.

وشهد المجتمع المدني طفرة في منتصف سبعينات القرن الماضي، وبدأ يتنامى عددها تدريجيا، حتى وصل الآن عددها لنحو 55 ألف جمعية تعمل في مختلف المجالات، مثل رعاية الطفولة والأمومة، ورعاية الأسرة، والمساعدات الاجتماعية، ورعاية الفئات الخاصة والمعاقين، والخدمات الثقافية والعلمية والدينية، وتنمية المجتمعات المحلية، والتنظيم والإدارة، ورعاية المسجونين.

وليست هناك مشكلة في الجمعيات ذات الأهداف الاجتماعية كوسيلة لمساعدة الفقراء، لكن المشكلة الكبيرة عندما تتحول هذه الجمعيات إلى أداة سياسية، وتستخدم في رفع تقارير عن الحريات عموما في مصر، وتتطرق إلى الممارسات التي تقوم بها أجهزة الحكومة وتعد في نطاق السلبيات التي تضر بفكرة حقوق الإنسان.

وهذه المقاربة تحكمها مسافات متباعدة بين رؤية القاهرة والمجتمعات الغربية، إذ تريد الأولى حصرها في النطاق الاجتماعي، بينما تصر الثانية على توسيع مفهومها ليتضمن جميع أنواع الحريات، وفي مقدمتها السياسية، ومع هذه الهوة من الصعوبة أن يهدأ الملف الحقوقي في مصر.

7