مصالحة الشباب العربي مع الكتاب تبدأ من ترميم نظام التعليم

"أمة اقرأ لا تقرأ" شعار تتداوله الأجيال العربية ويرثي حال الشباب العرب حتى اليوم، بينما ينعى المثقفون والمفكرون الكتاب معلنين حالة اليأس من إمكانية التقدم والنهضة الفكرية في ظل تدني نسبة القراءة لدى الجيل الجديد مقارنة بالشعوب الأخرى.
واقع القراءة العربية ينطبق عليه وصف أزمة لم تتوقف عند جيل محدد، وليس من الإنصاف إلقاء اللوم على التكنولوجيا وثورة المعلومات على شبكة الإنترنت التي أثرت بشكل عام على جميع دول العالم، وأصبح المشهد العام في القطارات والمترو ومواقف انتظار الحافلات، متمثلا في إمساك الأشخاص بأجهزتهم الذكية بدلا من الكتاب.
تبدأ المشكلة لدى جيل الشباب العربي من نظام التعليم المليء بالثغرات والبعيد كل البعد عن منهج التحليل والنقد والشك، والتشجيع على المطالعة أو رعاية أي مواهب أخرى، وغالبا ما يتخرج الطلاب بمؤهلات علمية وليس في جعبتهم سوى ما درسوه في الكتب المدرسية والجامعية، والاستثناءات قليلة جدا.
وهو ما يذهب إليه الدكتور مهند ملك مؤسس منظمة “الباحثون السوريون” ويرأس حاليا مجلس إدارتها، معتبرا أن أساس المشكلة هو المدرسة.
يجري ملك مقارنة بسيطة بين نظامي التعليم في الشرق والغرب، ويقول “درست في مدارس دمشق الخاصة التي تعتبر الأفضل نسبيا في سوريا، بينما زوجتي تلقت تعليمها في مدرسة فرنسية حكومية، وعندما بلغت الثامنة عشرة من عمري كانت حصيلتي من القراءة 12 كتابا خارج المنهاج المدرسي، بينما هذا معدل ما قرأته زوجتي في عام واحد في فترة دراستها، إذن المشكلة في التربية والتعليم والمدرسة”.
يلخص ملك وهو باحث في مركز الأبحاث الجزيئية والصيدلية في برلين، واقع القراءة العربي بالقول “إذا ما أردت إخفاء سر عن العرب، اكتبه في كتاب”.
البلد الأكثر تمتعا بحركية وإنتاج وقراءة في سوق الكتاب هو الجزائر الذي يزور معرضه الدولي للكتاب أكثر من مليون و500 ألف زائر ويشارك فيه ما بين 900 و1000 عارض
ويضيف في تصريحات لـ”العرب”، “لا يمكننا التعميم بأن الشباب العربي لا يؤمن بجدوى القراءة ولكن وكمراقب خارجي يمكنني أن أقول أن السواد الأعظم من شبابنا لا يقرأ، وهذا لا يعني أنني لم ألتق بمجموعات عربية ضخمة تهتم بالقراءة، ولكنها لا تشكل واحدا بالمئة من نسبة الشباب العربي”.
ويتابع “من لا يقرأ لن يكتسب الخبرة في انتقاء الكتاب الجيد، لذلك نرى أن معظم إنتاجنا الثقافي يعتمد على الكتب الدينية، والأبراج والطبخ، ويمكن القول إن الثقافة المجتمعية هي سبب ظاهري فقط، وهي مؤثرة إلى حد بعيد، لكنها ليست أساس المشكلة”.
يرفض ملك تحميل الناشر مسؤولية رواج نوعية محددة من الكتب لا تحمل قيمة أدبية أو فكرية، ويرى أن “الناشر يبحث بالنهاية عن الربح ويلبي ما يطلبه القارئ العربي، فالطلب هو من يحدد النوع حتى في أوروبا، إلا أننا لا نعفي الناشر من المسؤولية إذا كان من القطاع العام”.
وتتباين الأرقام والإحصاءات الرسمية من مراكز الأبحاث والمنظمات الدولية المعنية بهذا الموضوع، لكنها جميعا تتفق على تدني نسبة القراءة لدى الشباب العربي، وخلص مؤشر القراءة العربي الذي أطلقته “قمة المعرفة 2016” بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن واقع القراءة في العالم العربي، إلى أن العرب يقرأون ما يعادل 35 ساعة سنويا.
وكشف استطلاع للرأي أجرته “ياهو مكتوب” للأبحاث، أن ربع سكان العالم العربي، نادرا ما يقرأون كتبا. ويحتل الكتاب في غوغل المرتبة الـ153 من بين الاهتمامات العربية. وتعتبر كتب التنجيم هي ثاني أكثر الكتب قراءة في الوطن العربي.
وتقدر قيمة النشر في العالم العربي بحوالي 30 ألف عنوان فقط ولا يزيد عدد كتب الثقافة العامة من هذه الإصدارات على خمسة آلاف عنوان، فيما تحتل الكتب المدرسية والمطبوعات الحكومية المراتب الأولى في عملية النشر.
وتقول المعايير الدولية إنه يفترض أن تكون لكل ستة آلاف نسمة من المقيمين مكتبة عامة لكي تقوم بدور ثقافي، إلا أن عدد المكتبات العامة في الدول العربية مجتمعة لا يزيد على 4500 مكتبة من كافة الأحجام، وربما كان عدد المكتبات العامة ذات الوزن والأهمية في الوطن العربي لا يتجاوز الـ1000 مكتبة فقط.
ووفقا لدراسات التنمية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي في القاهرة فإنه تم تسجيل صدور كتاب واحد لكل 12 ألف مواطن عربي، بينما يصدر كتاب لكل 500 مواطن إنكليزي، وكتاب لكل 900 مواطن ألماني، أي أن معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4 بالمئة من معدل القراءة في إنكلترا على سبيل المثال.
وتعاني صناعة الكتاب في الدول العربية من العديد من المشاكل، أهمها ضعف الميزانيات المرصودة لهذا الغرض، حتى أن بعض المؤشرات تؤكد تراجعها.
ورغم أن مصر تعتبر الدولة الأولى عربيا في صناعة الكتب، إلا أن الجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة أعلن عن انخفاض معدل صادراتها من الكتاب خلال الفترة الممتدة من يناير وحتى يونيو 2015 إلى 52 مليون جنيه مقارنة بـ73 مليون جنيه خلال نفس الفترة من العام 2014 (1 دولار = 17.87 جنيه).
ولا تتجاوز تداولات سوق الكتاب العربية بيعا وشراء الأربعة ملايين دولار أميركي سنويا، في حين يصل هذا الرقم في دول الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال إلى حدود 12 مليار دولار، أي أن القيمة المالية لما يتداوله سكان الاتحاد الأوروبي فقط من كتب توازي ثلاثة آلاف ضعف القيمة المالية لما يتداوله العرب مجتمعين.
وتبقى السمة الرئيسة لسوق الكتاب في العالم العربي هي حالة ركود ممتدة رغم بعض محاولات الفاعلين كالناشرين والموزعين والمثقفين لإنعاشها بين حين وآخر، إضافة إلى تدني نسبة المقروئية لدى الفرد العربي وارتفاع عدد الأميين إلى أكثر من 65 مليون.
حركية في سوق الكتاب
تشير إحصائيات عربية إلى أن البلد الأكثر تمتعا بحركية وإنتاج وقراءة في سوق الكتاب هو الجزائر الذي يزور معرضه الدولي للكتاب أكثر من مليون و500 ألف زائر ويشارك فيه ما بين 900 و1000 عارض ويمتد على مساحة عرض تفوق 20 ألف متر مربع وزواره يشترون الكتب.
كما تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مبادرات شبابية متكررة تدور في فلك “الجزائر تقرأ” وتدعو إلى التشجيع على القراءة في الجزائر وتسعى من خلال نشاطات أصحابها من كتاب ومدونين إلى تقريب الكتاب من القارئ الجزائري وتكريس تلك الفضاءات لتزويده بالأخبار والمعلومات عن عالم الكتاب والنشر.
ونجحت المبادرات إلى حد ما في دفع الشباب إلى تبني فكرة القراءة وإنشاء مجموعات لإيصال الكتاب إلى القارئ من خلال مواقع تحولت إلى “فضاءات مكتبية افتراضية” تحفز على القراءة واقتناء الكتب. كما تعمل على مساعدة الطلبة في الوصول إلى كتب ومراجع تعليمية.
وتطورت هذه المبادرات واستحدثت وسائل أخرى لتشجيع القراءة، على غرار موقع “الجزائر تقرأ” لقادة زاوي الذي أنشأ دارا للنشر بنفس اسم صفحته على الإنترنت وتتميز عن دور النشر التقليدية بتواصلها مع القارئ ومعرفة رغباته مسبقا.
كما تم إطلاق مشروع “مكتبة في كل شارع” تحت شعار “ضع كتابا وخذ آخر مكانه” لجعل القراءة سلوكا يوميا، ولاقت الفكرة صدى واسعا.
مبادرات فعالة
وفكرة “ضع كتابا وخذ آخر مكانه” تنتشر في العديد من الدول العربية مثل القاهرة ودمشق وحلب والجزائر والرباط، بمبادرات شبابية، واستطاعت جذب القراء وتحقيق النجاح، لكن غالبا ما تستقطب هذه المبادرات الشريحة التي تهتم أساسا بالقراءة وتبحث عن توسيع المعارف والثقافة.
لكن ما يحتاج إليه العرب هو ضم شرائح مجتمعية جديدة إلى المبادرات ممن لا تقرأ، إضافة إلى التوعية بنوعية الكتاب الذي تجب قراءته، وجعل القراءة سلوكا لا ينفصل عن الحياة، وهذا ما يتطلب جهودا واسعة ومبادرات مجتمعية مكثفة لا تقتصر على الشباب وحدهم وتحتاج دعما من الحكومات العربية.
ويلقي العديد من المثقفين والمفكرين العرب باللوم على السياسات الحكومية التي لا تولي اهتماما أو رعاية لهذا الجانب، إذ ترى مريم التيجي الكاتبة والباحثة المغربية أن “السياسات الرسمية لا تشجـع المواطن المغربي على التصالح مع الكـتاب”.
الإمارات أصدرت أول قانون من نوعه للقراءة يضع أطرا تشريعية وبرامج تنفيذية ومسؤوليات حكومية محددة لترسيخ قيمة القراءة بشكل مستدام
وتقول “الدولة تستقدم مغنين من كل أنحاء العالم وتعطيهم الملايين من الدولارات وتقدمهم للجمهور مجانا في بعض المهرجانات، حيث تتحوّل ساحات المدن إلى موالد حقيقية، وحين يأتي موعد المعرض الدولي للكتاب، يختفي هذا الكرم ويلزم كلّ من يريد اجتياز عتبات أبواب المعرض بأداء مبلغ من المال، حتى لو كان طالبا أو تلميذا أو مجرّد طفل! ممّا يطرح علامة استفهام كبيرة على هذه المفارقة”.
وتوضح أن المكتبات العمومية المتبقية في المغرب، باتت خاوية على عروشها.
وتشير إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط في المغرب إلى أن ما تنفقه الأسر المغربية على التعليم والترفيه والثقافة، لا يتجاوز 3.6 بالمئة من مجموع نفقات الأسرة المغربية. وقد تكون أسعار الكتب المرتفعة سببا في عزوف الناس عن القراءة.
وذكرت المندوبية أن المغربي يخصص يوميا 6 ساعات و40 دقيقة للوقت الثالث أو الوقت الحر، تحتل فيها القراءة المرتبة الأخيرة بدقيقتين في اليوم، بينما يحتل التلفزيون المرتبة الأولى بما يفوق ساعتين في اليوم.
وأكدت الندوة الوطنية التي نظمتها شبكة القراءة بالمغرب مع شركائها الجامعيين والاقتصاديين عام 2015 أن أزمة القراءة ليست طارئة، بل هي تاريخية، إذ لم يشهد المغرب في أي مرحلة اهتماما خاصا بالقراءة ولا ترسيخا لتقاليدها، ولم تكن الثقافة عموما في يوم من الأيام أولوية في السياسات والمخططات الرسمية، ولا هدفا استراتيجيا وضعت وسخرت له الإمكانات لتحويل القراءة وانتشار الكتاب، إلى تقليد يصبح جزءا من مشاريع التنمية الشاملة، وبالتالي فما نشهده اليوم هو استمرار واستفحال لتراكم تاريخي من مسلسل اللامبالاة وعدم الاهتمام، بغض النظر عن النوايا الحسنة التي يتم الإعلان عنها في الكثير من المناسبات، مما يؤكد غياب إرادة فاعلة قادرة على تجاوز هذا التأخر.
استثناءات خلاقة
تولي بعض الدول العربية اهتماما واسعا للقراءة وتعمل على رعاية مبادرات متعددة في هذا الإطار، مثل الإمارات التي تعمل على ترسيخ ثقافة العلم والمعرفة، وتتبنى سلسلة من المشروعات الثقافية والفكرية والمعرفية.
وأطلقت فعاليات شهر القراءة الوطني على مستوى الدولة في مارس من كل عام، وتتضمن جملة من الأنشطة التي تستهدف تعزيز ثقافة القراءة بين فئات المجتمع، وتحفزها على تحويلها إلى ممارسة يومية أصيلة، وتوزيع حقيبة معرفية للجميع، والتوجهات لإثراء المحتوى القرائي الوطني، ومراجعة سياسات النشر في الدولة، لتعزيز ودعم الناشرين.
وتم اعتماد الاستراتيجية الوطنية للقراءة حتى عام 2026، وتتضمن 30 توجها وطنيا رئيسا في قطاعات التعليم والصحة والثقافة وتنمية المجتمع والإعلام والمحتوى.
وفي مبادرة تعدّ الأولى على مستوى العالم، صدر في 2016 أول قانون من نوعه للقراءة يضع أطرا تشريعية وبرامج تنفيذية ومسؤوليات حكومية محددة، لترسيخ قيمة القراءة في الدولة بشكل مستدام، بهدف دعم تنمية رأس المال البشري، والإسهام في بناء القدرات الذهنية والمعرفية، ودعم الإنتاج الفكري الوطني، وبناء مجتمعات المعرفة في الدولة.
ويكتسب القانون أهمية لكونه شاملا على المستوى الوطني لتطوير الأصول الثقافية للمواطنين، بما يكفل إعداد وتأهيل أجيال قادرة على أن تؤسس لإرث فكري يمكن تطويره والبناء عليه، ويجعل القراءة حقاً ثابتا ومتاحا للجميع، يتم تكريسه من الولادة، عبر توفير ثلاث حقائب معرفية تغطي احتياجات الطفل من مرحلة الرضاعة حتى الرابعة من العمر، بواقع حقيبة كل عامين.
كما يضع أطرا ملزمة لجميع الجهات الحكومية في القطاعات التعليمية والمجتمعية والإعلامية والثقافية، لترسيخ القراءة لدى كل فئات المجتمع بمختلف المراحل العمرية.