مشكلة الصحافة المصرية لا تختزل في عمل المحرر في صحيفتين

يلوم رئيس تحرير جريدة "الشروق" المصرية الخاصة -الذي يتلقى بيانات حكومية عبر واتساب وينشرها بحذافيرها دون أن يجرؤ على تغيير ولو كلمة واحدة- صحافيّا على رغبته في العمل في صحيفتين، وذلك بالتزامن مع بروز أزمة إعلامية واقتصادية محتدمة في مصر.
القاهرة - فجر رئيس تحرير جريدة “الشروق” المصرية الخاصة عمادالدين حسين جدلا خلال الأيام الماضية عندما لام أحد المحررين الشباب على رغبته في العمل في صحيفتين، وكتب مقالا بعنوان “هذا هو حال بعض الصحافيين”؛ حيث جرى الرد عليه من قبل عدد كبير من زملائه وتلاميذه ومحبيه ومن وثقوا في قلمه مبكرا على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإلكترونية، قائلين المشكلة أكبر من ذلك ولا يجب اختزالها في عمل المحرر في صحيفتين أو أكثر، فالأزمة الاقتصادية محتدمة.
وحاول حسين الرد على منتقديه في ثلاثة مقالات لأن ما كتبه حرك جانبا من المياه الراكدة في بلاط صاحبة الجلالة، وفق التوصيف الذي انتشر في مصر، والمقالات على التوالي هي “إلى الصحافيين الذين هاجموني أجيبوا عن سؤالي”، و”دفاعا عن حياة كريمة للصحافيين”، و”رسالة من كاتب صحافي كبير”.
وتضمنت المقالات الثلاثة الكثير من التفسير والتوضيح والتبرير لمقصده دون أن ينكر وجود مشكلة حقيقية في الفضاء العام السياسي والمهني والاقتصادي، وما كتبه لا يتضمن تراجعا عن موقفه الأول، وهو محقّ في مسألة رفضه الحاسم لقيام المحرر بنشر الخبر نفسه في جريدتين مختلفتين.
اللوم الحقيقي يلقى على رؤساء التحرير الذين يقبلون نشر الأخبار جافة كما هي بلا إضافة تثري الخبر بالمعلومات والتحليل
وتعامل رئيس تحرير “الشروق” مع المشكلة وكأنه جاء من كوكب آخر ولا يعلم أن الخبر الواحد صار يوزع على جميع الصحف والمواقع في آن واحد من خلال المصادر ذاتها التي ترفض الحديث خصيصا لأي صحيفة كبيرة أو صغيرة، إلا نادرا، وأن كل الجهات الرسمية -بدءا من مؤسسة الرئاسة ووصولا إلى قسم الشرطة في ناحية بعيدة- لا تبيح فكرة الانفراد بالخبر وربما تبغضها، وتكاد تكون اختفت من قاموس الصحافة المصرية.
وتجاهل عمادالدين حسين أنه يتلقى الكثير من البيانات والمعلومات على الواتساب الخاص به مثل كل رؤساء تحرير الصحف المصرية، ولا يجرؤ أحدهم على التغيير بالإضافة أو الحذف ولو وجد معلومات مغلوطة أو خطأ إملائيا أو نحويا.
لذلك فإنكاره على المحرر الصغير نشر الخبر في صحيفتين في وقت واحد لتحسين مصادر دخله موقف غير واقعي، يجهضه ما أشار إليه هو نفسه من أن هناك ما يشبه الجمعية التي تضم مجموعات من الصحافيين الذين يقومون بتغطية أخبار وزارة أو جهة واحدة بالتعاون فيما بينهم ووضع الخبر ليراه جميع أعضاء المجموعة، وفي حالة غياب أحدهم يستطيع اللحاق بما فاته، وهو غالبا ليس ذا قيمة مهنية لكن له قيمة إدارية بيروقراطية داخل الصحيفة أمام الجهات الرسمية.
ويُلقى اللوم الحقيقي على رؤساء التحرير الذين يقبلون نشر الأخبار جافة كما هي بلا إضافة تثري الخبر بالمعلومات والتحليل، ولو فرض السيد عماد على كل المحررين الذين يعملون تحت رئاسته تطوير الخبر وتحويله إلى قضية جذابة وذات قيمة لما وجد محررا يجرؤ على تكرار المعالجة في أكثر من مكان.
ومن المفترض أن لكل صحيفة سياسة تحريرية مختلفة عن الأخرى في النشر والمعالجة المهنية، لكن لأن الكل في الهم سواء بدت عملية تكرار نشر الخبر جريمة عندما يرتكبها محرر صغير، وهي فعلا جريمة، غير أن الجريمة الأكبر يتحمّل جريرتها من يفرض النشر بالطريقة التي يريدها المسؤول الذي يملك مفاتيح الحل والعقد، ومعه من يقبلون ذلك بلا مناقشة أو مراجعة.
وكانت صحيفة “الشروق” مدرسة واعدة في مهنة الصحافة وأصابها الترهّل، شأنها في ذلك شأن بقية الصحف في مصر، وفيها من المشاكل المهنية والمالية ما يصعب رصده، وهو الجانب الذي كان على رئيس تحريرها المساهمة في حله، خاصة أنه عضو معين من قبل رئيس الجمهورية في مجلس الشيوخ، الغرفة الثانية في البرلمان، وينظر إليه على أنه (حسين) مصدر الحكمة والرشد والكفاءة ولن تغمض له عين حتى يتبنى موقفا واضحا من الأسباب التي أدت إلى جمود الإعلام في مصر.
وفي هذا السياق استشهد البعض من منتقدي عمادالدين حسين بكتابته في أكثر من مكان وظهوره على عدة فضائيات وسفرياته المتكررة إلى الخارج ضمن وفود بعض الجامعات المصرية، وهذا حقه لأنه من الكفاءات ويملك من المهارات ما يسمح له بأن يكون واجهة مشرّفة لأي جهة.
وما جعل اللوم الذي وجهه إلى المحرر مرفوضا هو أن ما كتبه لم يتناول الأمراض المزمنة لمهنة الصحافة، واحتوت مقالاته تفسيرات مقنعة وأخرى غير مقنعة، وجاءت الثانية عندما شعر بأن الحملة قوية، وهو الذي يطرب عندما يصفه البعض بأنه صوت المعارضة في الحكومة وصوت الحكومة في المعارضة.
وكل من يعرفون عمادالدين حسين منذ بداية عمله في بلاط صاحبة الجلالة وتنقلاته في العمل داخل مصر وخارجها، يدركون أنه من الكتاب الناصريين المعتدلين ومن الأصوات التي لا تميل إلى الخطاب “الحنجوري”، وهو لفظ دارج في العامية المصرية ويدل على الغوغائية واستخدام الصوت العالي بلا مضمون حقيقي.
إذا كانت فكرة الانفراد بالخبر اختفت بسبب التضييق الحاصل في مجال الحريات، فهناك هوامش متوفّرة يمكن التحرك فيها وتتعلق بالبحث في جوهر القضايا
وبالتالي عندما يتعرض لمشكلة الصحافة كان كثيرون يتمنون أن يكون أكثر موضوعية ووضوحا مما بدا في مقالاته الأربعة، وينتصر بلا مواربة للمهنة التي ينتمي إليها ويدافع عن مستقبلها، لأن الكثيرين رأوا فيه صوتا للعقل، فإذا لم يكن مفيدا لأبناء جلدته ومهنته فلن يستطيع أن يصبح مفيدا في أي جهة يعمل فيها أو يتعاون معها.
ويُلَامُ أيضا من سمحوا بأن يعمل بعض الصحافيين كتّابا في الصحف التي ينتمون إليها -منهم رؤساء تحرير- وفي الآن نفسه يقدمون برامج في التلفزيونات والراديوات، ويكونون أعضاء في البرلمان، ومستشارين في بعض الجهات الحكومية، ولا يخلو الأمر من استثمار خاص في الخفاء.
ويهيمن شخص واحد على عدة وظائف تدر عائدا ماليا سخيا، ويحصر رئيس تحرير “الشروق” المشكلة في محرر يعمل في صحيفتين يمنحهما الخبر نفسه، وهو خطأ جسيم بالطبع، ويتجاهل من يحتلون مواقع إعلامية متعددة في آن واحد، يمكن أن يؤدي تفكيكها إلى حل مشكلة المئات من المحررين.
ويرتاح الصحافيون عندما يحمّلون الآخرين المسؤولية وينزعجون عندما يطالبهم البعض بالقيام بدورهم الحقيقي؛ فإذا كانت الحكومة مسؤولة عن جزء معتبر من أزمة الصحافة بسبب تضييقها على الحريات في الفضاء العام وحجب المعلومات، فرؤساء التحرير وأصحاب القرار لهم نصيب من هذه المحنة، لأنهم لا يكلفون أنفسهم البحث عن المناطق المضيئة لمهنة الصحافة التي تتولى الغوص في الخبر وما وراءه.
وإذا كانت فكرة الانفراد بالخبر اختفت بسبب التضييق الحاصل في مجال الحريات، فهناك هوامش متوفّرة يمكن التحرك فيها وتتعلق بالبحث في جوهر القضايا، وهي الميزة التي تعيد الاعتبار للصحافة بعد أن تضاعف تأثير مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت الكثير من الصحف تقلدها، وليس العكس.