مشكلة الرواتب تهدد حكومة إقليم كردستان بالتفكك

في السنوات السابقة ومنذ بداية تأسيس حكومة إقليم كردستان، شكلت الرواتب وعناصر قوى الأمن، نقطتان مهمتان تتحكمان بسلطة الأحزاب الحاكمة في إقليم كردستان، لأن كلا منهما عامل قوة مطلق بيد الأحزاب. هذا الواقع أدى إلى سيطرة الحزبين الحاكمين على كل مفاصل الدولة وعلى الإيرادات العامة. ولا تزال السيطرة على نتائج الانتخابات بيد الأحزاب، إلا أنها أصبحت هشة وأضعفت من قدرات الحزبين.
بعد قرار المحكمة الاتحادية حول توطين رواتب الموظفين في إقليم كردستان في 21 فبراير ووصول مشكلة الرواتب بين أربيل وبغداد إلى مستوى كبير من التعقيدات، خاصة أن أربيل ترفض هذا الحل، وبغداد لم ترسل رواتب قوى الأمن في إقليم كردستان، مكتفية بإرسال رواتب الموظفين المدنيين.
ومعلوم أن إقليم كردستان يحتاج إلى 374 مليار دينار شهريا لدفع رواتب القوى الأمنية، وبموجب قرار المحكمة الاتحادية المتعلق بمشكلة الرواتب في الإقليم، وعلى الطرفين الالتزام به، يجب توطين رواتب المنتسبين في إقليم كردستان، أي استلام الراتب مباشرة من بنوك الحكومة الاتحادية، وهي خارج سيطرة الإقليم.
◙ سلطات الإقليم تعلم أن القوات المسلحة في حال استلمت الرواتب عن طريق "ماستر كارت" من الوزارات الحكومة الاتحادية سوف تفقد السيطرة عليها، وتخسر جزءا كبيرا من نفوذها السياسي
وحسب تصريحات وزير مالية إقليم كردستان، لم ترسل بغداد رواتب 307 آلاف منتسب من قوات الأمن في كردستان العراق، وهذا يشمل البيشمركة وقوى الأمن الداخلي والشرطة المحلية والمؤسسة الاستخباراتية، بينما تقوم بتمويل الوزارات المدنية بمبلغ 560 مليار دينار شهرياً. وتقول أربيل إن بغداد تميز بين المنتسبين المدنيين والعسكريين، هادفة إلى خلق خلافات داخل المجتمع الكردي.
وكان رئيس وزراء الحكومة العراقية محمد شياع السوداني قبل صدور قرار المحكمة الاتحادية، قد عبّر عن رأي مخالف لما صدر عن المحكمة قائلا "حسب الدستور ليس هناك شيء اسمه راتب الإقليم بل هناك حصة إقليم"، وأكد أن عملية توزيع الرواتب من قبل وزارة المالية الاتحادية قد يؤدي إلى تفكيك إقليم كردستان، بينما الإقليم هو كيان دستوري حسب قوله.
وهذه النقطة تقلق المسؤولين الأكراد الذين يخشون وجود أجندات لأحزاب عراقية داخل الإطار التنسيقي تعمل على تعطيل دفع الرواتب لتفكيك سلطتهم.
من الواضح أن الصراع ليس من أجل حقوق المنتسبين في إقليم كردستان، بل هو صراع على النفوذ والسلطة، وتحديدا رواتب القوى الأمنية.
حتى الآن لم تقبل حكومة الإقليم تسليم قوائم أسماء القوات الأمنية إلى وزارة المالية الاتحادية، بينما تصر بغداد على إرسال القوائم التي تخص قوات الأمن أسوة بقوائم الوزارات المدنية.
حجة إقليم كردستان بعدم تسليمها قوائم القوات الأمنية ضعيفة وليس لها أساس، خاصة أن قوات البيشمركة الكردية كانت جزءا مهمّا من الحرب ضد داعش وقدمت تضحيات كبيرة بالأرواح، ووقفت إلى جانب الجيش الاتحادي والحشد الشعبي.
أين المشكلة في أن ترسل حكومة الإقليم قوائم أسماء البيشمركة، فالأسماء قد تكون موجودة لدى بعض الجهات، وإقليم كردستان ليس في حرب مع بغداد، وحسب الدستور البيشمركة هي جزء من منظومة الدفاع العراقية. وقوات الشرطة المحلية تمتثل لأوامر القضاء وليس لها أيّ طابع سياسي، فما المشكلة إذاً من تسليم أسمائهم إلى وزارة المالية، وحتى قوى الأمن الداخلي ليس لها أيّ طابع استخباراتي حتى يخشى الإقليم من الاختراقات الأمنية.
◙ إقليم كردستان يحتاج إلى 374 مليار دينار شهريا لدفع رواتب القوى الأمنية
بغض النظر عن ذلك كله، يظهر بوضوح أن المشكلة لا تتعلق بالمواضيع الأمنية والخوف من التسريبات والمعلومات الحساسة، بل هي خوف على انتماء هذه القوات، فالأحزاب تتعامل مع القوات المسلحة بوصفها مؤسسة تابعة لأحزاب وأشخاص، وهنا النقطة الجوهرية. ما يضمن بقاء النظام الحالي في الإقليم هو وجود السلاح بيد الأحزاب، وعدم وجود قوة عسكرية وطنية بعيداً عن المصالح الحزبية.
سلطات الإقليم تعلم أن القوات المسلحة في حال استلمت الرواتب عن طريق "ماستر كارت" من الوزارات الحكومة الاتحادية سوف تفقد السيطرة عليها، وتخسر جزءا كبيرا من نفوذها السياسي. إلا أن حكومة الإقليم ترفض تسليم رواتب الموظفين المدنيين دون رواتب المنتسبين الأمنيين، أي أن الإقليم رهن الموظفين المدنيين من أجل الحصول على المبالغ الإضافية، لتضمن استمرار الضغط على الحكومة الاتحادية لإرسال المبالغ المطلوبة.
سبب آخر لعدم تسليم قوائم العسكريين، يعود إلى عدم وجود قائمة موحدة للبيشمركة لدى وزارة المالية، لأن قوائم البيشمركة وتفاصيلها موجودة فقط لدى الأحزاب، وأيّ حزب من الأحزاب الحاكمة لن يقبل تسليم تلك التفاصيل إلى حكومة الإقليم.. حتى المواضيع الأمنية المتعلقة بالقوات العسكرية هناك خلافات جدية بين الحزبين الحاكمين حولها، حيث يحرص كل حزب على ألاّ يعرف الحزب الآخر معلومات عن حجم وتفاصيل قواته.
يوم الجمعة الماضي قال أوات جناب وزير مالية إقليم كردستان في مقابلة تلفزيونية حول احتجاج المتحدث الرسمي للاتحاد الوطني على موضوع الرواتب، إن القوات الأمنية التابعة للاتحاد الوطني هي جزء من المشكلة، وأضاف إذا كان الاتحاد الوطني يقبل توزيع رواتب دون رواتب قواته لا توجد لدينا مشكلة.
◙ بعد قرار المحكمة الاتحادية حول توطين رواتب الموظفين في إقليم كردستان، وبغداد لم ترسل رواتب قوى الأمن في إقليم كردستان، مكتفية بإرسال رواتب الموظفين المدنيين
هذا الكلام دليل واضح على أن مشكلة الرواتب متعلقة بالقوات الأمنية، وتعود إلى عدم توحيد صفوف القوات المسلحة الكردية وعدم وجود قائمة موحدة ونظيفة حسب التصريح الرسمي لجبار ياور الأمين العام السابق لوزارة البيشمركة، وأن عدد قوات البيشمركة الحزبية المحسوبة على الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني الخارجة عن سيطرة وزارة البيشمركة يصل إلى 120 ألف عنصر بيشمركة حزبي، إضافة إلى قوات الأمن الداخلي المنقسمة على الحزبين.
رغم الجهود المكثفة من قبل الأميركان من أجل توحيد صفوف قوات الأحزاب وجعلها قوات حكومية منظمة، إلا أن الحزبين الحاكمين لم يقبلا بعرض قوائم قواتهما للأميركان والتي هي تحت مظلة وزارة البيشمركة، وهذا دليل واضح على أن الحزبين الحاكمين يعرقلان عملية توحيد قوائم البيشمركة. وبالتالي، فإن تسليم قوائم القوات المسلحة الحقيقية إلى الحكومة الاتحادية مستحيل. وهذا يعني بكل بساطة أن مشكلة الرواتب لن تحلّ وستبقى معلقة بالمصير السياسي والصراع على النفوذ والبقاء في السلطة.
المسؤولون في الحزبين الحاكمين أمام اختيار صعب؛ فقبول توزيع الرواتب مباشرة عن طريق التوطين يعني إنهاء سيطرة الأحزاب ودورها وتفكيك سلطاتها، وعدم قبول العملية يعني أن الحكومة ستخسر شعبيتها. لذلك يطالبون بربط رواتبهم بالحكومة الاتحادية، أو يسعون إلى أن يقدم الإقليم تنازلات سياسية إلى سلطة الإطار التنسيقي مقابل تراجع بغداد عن التوطين المباشر.
كل ما يحدث الآن هو نتيجة فساد مزمن من قبل الحزبين الرئيسيين في إقليم كردستان، وعدم وجود مشروع إصلاح سياسي لثلاثة عقود، وسيطرة الأسر الحاكمة على كل مفاصل الدولة والحكم خارج المعيار القانوني والتمتع بسلطات دون أيّ رؤية وطنية ودون مراعاة الاحتجاجات الداخلية والخارجية.