مشكلة الحَكّاء

القمني كان محض حَكّاء ربما أقل إنكاراً من غيره لكن الاستسهال كانت مشكلته حين تناول القضايا الإيمانية بالتفنيد المادي الساخر.
الأحد 2022/02/20
لا نعلم مآلات الناس في الدار الآخرة

في سطور الأحد الماضي، جئت على ذكر قيامة ردود الأفعال، التي استحثتها وفاة سيد القمني، استباقاً ليوم أن يجتمع الخصوم. وفي الحقيقة، كان ضرورياً تخطئة المسعى الذي ثابر عليه الرجل في حياته، دون تعنيفه أو الحديث عن مآلاته في دار الأبدية، لاسيما ونحن لا نعلم مآلات الناس في الدار الآخرة.

يمكن القول إن كل إنسان، حُرٌّ في قناعاته في مسألة الدين، لكن من حق الناس وفضائهم الاجتماعي عليه، ألا يتأبط رسالة إنكار، ويدور بها على القنوات الفضائية وعلى ما يتاح له من منصات الكلام، إذ لا ينطبق على الدين، ما ينطبق على آراء أخرى في شؤون الدنيا، واجتهادات السياسة والاجتماع.

لم يكن القمني قد بلغ في الدرس والتأمل ومن القدرة على مطابقة النص بالحقائق العلمية؛ ما بلغه أدباء عظام من الشرق والغرب، تأثروا بالدين الإسلامي. فهؤلاء  أقدر ـ بالطبع ـ من القمني وغيره، على الذهاب إلى وجهة أخرى، تحاكم النص والصور القرآنية بمعايير مادية أو تطبيقية. وتكفي مطالعة ما كتبه ـ على سبيل المثال ـ الأدباء والشعراء الروس الذين تأثروا بالقرآن الكريم والثقافة الإسلامية؛ لكي نعلم أهمية احترام الدين. كان في طليعة أولئك الأفذاذ، ألكسندر بوشكين، وليو تولستوي، وفيودور دوستويفسكي الروائي والصحافي والفيلسوف، وشاعر القوقاز ميخائيل ليرمنتوف، وإيفان بونين، وهو أول روسي يفوز بجائزة نوبل للآداب. فهذا الأخير، تأثر بآراء تولستوي ثم نهل من الثقافة الإسلامية، بفضل رحلاته الكثيرة، لاسيما إلى بلادنا في المشرق والمغرب العَربييْن، مع التركيز في العام 1907على فلسطين ومدنها، من الساحل إلى أريحا مروراً بالقدس وبيت لحم..

كان القرن التاسع عشر، ذروة النهضة الأدبية التي ما يزال الروس يفاخرون بها، وقد شهد ذلك القرن، إقبالاً لافتاً على مطالعة كتاب الله. فقد ألهمت العقيدة الإسلامية الروائيين الروس، حتى أن دوستويفسكي عندما سُجن في سنة 1854 طلب من شقيقه نسخة من القرآن الكريم، وبعدئذٍ أشار في رواياته الفلسفية إلى مسألتي اليقين وسموّ الروح والإيمان بالغيب، وأتى على ذكر الإسراء والمعراج، في روايتين. أما ليو تولستوي، فقد امتدح صدق المسلمين في رسائل شخصية جُمعت بعد وفاته، وله رواية بعنوان “الحاج مراد” عن قائد شيشاني مسلم، حاز على إطراء الأديب الكبير لأن مفتتح الكلام عنده، كان التحية بعبارة “السلام عليكم”. ويقول في الرواية أن الحاج مراد، عندما عاد من قتال الروس، التقاه أتباعه من الفرسان، بإطلاق النار والنطق بالشهادتين. وكتب عن تلك الشخصية التي يتخيلها قائلاً “الحاج مراد، نوع من الأبطال الأفذاذ، براغماتي وعنيد ويؤدي الفرائض الدينية المتوجبة عليه كمسلم، ويشارك شعبه في كل التقاليد”!.

مثل هذه الصور لها تجليات أعلى شأناً في أدب إيفان بونين، الذي لم تفارق التعبيرات القرآنية تجربته الأدبية. كأنما كان يلتمس لنفسه تعاطفاً عميقاً مع الدين الإسلامي فأضفى على نصوصه ومقاصدها، بهاءً وجزالة أسعدته. وقد استخدم ألفاظاً قرآنية لا يعرف الكثير من المسلمين معانيها أو مقاصدها، مثل “الحُطمة” و”سَقر” والحروف الثلاثة “ألف لام ميم” فاتحة ستّ من سور القرآن. وقد كتب بونين قصيدة “السر” لتظهير عنصر الإعجاز في القرآن.

كان القمني محض حَكّاء، ربما أقل إنكاراً من غيره، لكن الاستسهال كانت مشكلته، حين تناول القضايا الإيمانية بالتفنيد المادي الساخر.

20