مشروع مدينة بغداد الإدارية نبت شيطاني جديد

مشروع العاصمة الإدارية الجديدة "الرفيل" في بغداد يطغى هذه الأيام على أحاديث العراقيين وتشكيك خبرائهم وتحذيرات المختصين بهندسة المدن ومخاوف المعنيين بتقديم الخدمات. أما المحبذون لذلك، المستفيدون من هذا المشروع في الأغلب، فيرون فيه إيجابيات عظيمة ويشبهونه بالمدينة الإدارية التي أنشأتها مصر.
سهى داود إلياس النجار، وهي عراقية أصلها من بلدة كرمليس قرب الموصل، بريطانية الجنسية، وعيّنت رئيسة للهيئة الوطنية للاستثمار في 14 سبتمبر 2020، بعد أن كانت مستشارة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ومديرة في بنك الكويت الوطني، ومديرة مالكة وحيدة لشركة أسهم صغيرة في لندن، صرّحت بأن مشروع الرفيل سينفذ على أربع مراحل، الأولى لإنشاء مجمعات سكنية وتعليمية وطبية وتجارية وخدمية وترفيهية، وحسب التصاميم التي اقترحتها الشركة الأميركية CH2M والتي اشترتها مؤخرا الشركة الهندسية العملاقة "جيكوبز إنجنيرنغ غروب - تكساس". والمرحلة الثانية خصصت لمشاريع لوجستية خدمية مجاورة للمطار، والثالثة لمشاريع زراعية غذائية. أما المرحلة الرابعة فستغطي أراضي واسعة من قضاء أبوغريب شمال المطار وغربه. وسيتم عرض هذه المراحل كفرص استثمارية -لجهات غير عراقية على الأغلب - مع إعداد تصاميم تفصيلية لكل فرصة تحدد فيها المشاريع مع توفير الخدمات التحتية اللازمة، منوهة إلى أن الهيئة بصدد طرح 12 فرصة استثمارية قريبا عبر لجنة حكومية و"ستراعى فيها شروط الشفافية كلّها".
حتى المواطنون العراقيون البسطاء تساءلوا: كيف يمكن لحكومات تعاقبت على حكم العراق منذ 2003 ولم تبن حجرا في العراق أن تبني، فجأة، مدينة جديدة بمساحة أرض هائلة تقترب من 400 كيلومتر مربع، أي نحو نصف مساحة بغداد، وتستوعب مليون شخص جديد، وتهجر قرابة 300 ألف مواطن مستقر في أرضه، منذ عقود طويلة، من دون أن تعلن حدود هذه المدينة بالضبط، ومخططها الأساسي المقترح، ولا يعلم أحد ما إذا أجريت الدراسات التخطيطية والبيئية والقانونية اللازمة، وتم الحصول على الموافقات الأصولية من البرلمان والجهات المختصة.
إحسان فتحي، وهو معماري ومخطط مدن عراقي (خريج جامعة شفيلد - المملكة المتحدة)، عضو الهيئة الاستشارية العليا لتخطيط مدينة بغداد سابقا، يرى أنه كان من الممكن اختيار الموقع الجديد قرب بحيرة الحبانية كعاصمة إدارية جديدة وهي تبعد نحو 50 كيلومترا عن المطار لأنه سيكون أفضل بكثير بيئيا واقتصاديا، ولا يزال هذا الاختيار قائما وممكنا حتى الآن، إلا إذا كانت لدى هذه الحكومة أسباب قاهرة أخرى تمنعها من اختيار هذا الموقع الرائع وتضطرها إلى اللجوء إلى خيار المطار وأبوغريب.
إن الكثير من المشككين في أهداف هذا المشروع يرون أن الأسباب القاهرة، التي ذكرها فتحي هي أهداف طائفية بحتة لإزاحة العرب السنّة من حزام بغداد، ففي الحالات الاعتيادية، لا تعطي الحكومة مثل هذا المشروع إلى مكتب بعينه، بل تعلن عنه في مسابقة بين عدد معين من أفضل المكاتب الاستشارية المتخصصة في تخطيط المدن، بعد اكتمال دراسة الجدوى طبعا وبرنامج المتطلبات، لتقديم أفكارها العامة وتصوراتها عن العاصمة الإدارية الجديدة لكي يتم اختيار التصور الأفضل من قبل لجنة تحكيم متخصصة وأعضائها على درجة عالية من الاحتراف والخبرة. بعد ذلك يتم إعداد المخططات التفصيلية للمدينة الجديدة، شرط مناقشتها وتقييمها باستمرار من لجنة متخصصة أيضا، لأنه لا يسمح للمكتب الأجنبي أن يقرّر هو ما يشاء وحسب معاييره وأساليبه ومزاجه من دون نقاش وتبريرات منطقية وتقنية تناقش مع الجانب العراقي المتخصص.
يقول البروفيسور فتحي "إن بناء مدينة جديدة بهذا الحجم من الاستثمار والمساحة الهائلة ليس مزحة، أو لعبة بسيطة بيد هذا السياسي أو ذاك. إنه قرار خطير جدا سيؤثر على مصير الأجيال القادمة وتركيبتها الاجتماعية للمئات من السنين القادمة، وسيغير جوهريا البنية الوظيفية لمدينة بغداد وهيكلها العمراني".
دعا خبراء عراقيون من ضمنهم فتحي، الهيئة الوطنية للاستثمار إلى إعادة النظر مرة أخرى في هذا المشروع الخطير والتفكير جديا في خيار إنشاء المدينة الجديدة في منطقة أخرى، لأن المضي قدما في مشروع الرفيل، بغض النظر عن نتائجه الوخيمة المذكورة كلها، سيتحمله تاريخيا كل مسؤول وقّع على تنفيذه.
السؤال الذي يفرض نفسه هو أن من لم يستطع تأمين الطاقة الكهربائية للعراقيين كيف سيمكنه تأمين الطاقة الكهربائية لمدينة بهذه السعة؟
استأنست، في هذا المجال، برأي وزير الكهرباء الأسبق سحبان فيصل مـحجوب، الذي أشار إلى أن منظومة الكهرباء في العراق بجوانبها كافة تعاني حالة الضعف في الأداء، وهي لا تزال عاجزة عن تلبية متطلبات تزويد المواطن بخدمة تجهيز مستقرة ومستمرة للتيار الكهربائي، وكان تأثير ذلك في نتائجه على القطاعات كافة التي تخص حياة المجتمع، حيث كان الأداء الفاشل صفة ملازمة لها، فالطاقة الكهربائية هي العامل الأساس لضمان نجاح تنفيذ أي مشروع، فإذا كانت الجهود الحكومية السابقة والحالية قد فشلت في توفير هذا الشرط الحاسم في العيش الآمن والبناء السليم، بالرغم من تخصيص المليارات له، فكيف ستكون قادرة على تأمينه لمشروع تعلن الحكومة أنه سيضم وحدات سكنية ليزاول العيش فيها أكثر من مليون شخص بالإضافة إلى وحدات خدمية ملحقة بمختلف الوظائف؟
لا ننكر أن العراق يحتاج إلى مدن جديدة عدة علاجا للزيادة المهولة في عدد السكان، والضغط الذي يحصل على البنى التحتية والخدمات، مثل الصرف الصحي والتيار الكهربائي وغيرهما، ما يحتم إعادة النظر وتكرار تجربة بعض الدول الأخرى، مثل القاهرة، التي بنت عاصمة إدارية جديدة، ولكن أحد أهم الاختلافات بين المدينة الإدارية في مصر وبين التي يزمع إقامتها في بغداد، هو بعد القاهرة الجديدة بنحو 45 كيلومترا شرق العاصمة وعلى أرض صحراوية تماما، بينما نجد أن مدينة الرفيل المقترحة ستكون داخل بغداد وملاصقة لها تماما وحول المطار الدولي وعلى أراض زراعية ممتازة! ومن غير المعروف تماما من هو صاحب فكرة إنشاء هذه المدينة في هذا الموقع تحديدا، ذلك لأنه من غير المعقول أنها كانت من بنات أفكار الكاظمي وحده، ولأن الدراسات السابقة الخاصة بإنشاء مدن توابع جديدة حول بغداد لم تتضمن موقع الرفيل المقترح.
خلاصة القول إن مشروع الرفيل الذي ظهر فجأة، كما لو كان نبتا شيطانيا هو صفحة أخرى من كتاب علي بابا، فمنذ 18 عاما وست حكومات متعاقبة لم تعبّد شارعا ولم تشق جدولا ولم تشيّد مدرسة أو مستشفى، فمن أين أتت فكرة المدينة الخرافية؟
ابحثوا عن الأسباب في مختبرات الأحزاب السياسية. إنها وسيلة للتغيير الديموغرافي الطائفي وعقدة أحزاب التشيع الإيراني التي تسعى لإجراء عملية تطهير مذهبي للعاصمة بغداد مع ما سيرافق ذلك من عمليات فساد أصبحت مألوفة في العراق.