مشروع عراقي للترجمة يعالج ندرة المحتوى العربي الرقمي ورداءته

ألهم تزايد إقبال البشر على محركات البحث عبر الشبكة العنكبوتية بهدف استقاء المعلومات أو إنجاز البحوث أو الاطلاع على جديد العالم من أخبار، عددا من الشباب العربي بعث مشاريع ذات صبغة تقنية تتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي منصات لها.
قامت مجموعة من الشباب العراقي، في ظل تزايد إقبال الشباب العربي على شبكة المعلومات (الإنترنت)، ومواقع التواصل الاجتماعي، أمام ندرة المحتوى العربي الرقمي ورداءته مقارنة بنظيره باللغات الأخرى، ببعث مشروع للترجمة لمعالجة هذه المشكلات.
وجاءت فكرة المشروع العراقي للترجمة بالأساس لتقويم تفشي الخرافة والزيف الغالبين على المحتوى الرقمي الضئيل، بالإضافة إلى بروز الحاجة إلى رفد هذا المحتوى بالمعرفة النوعية الرصينة بأسلوب يُسهّل فهمها على القارئ غير المتخصص ويثير فضوله تجاه العلوم ويفتح أفق المعرفة أمامه.
ويعمل المشروع العراقي من خلال ترجمة البحوث، الدراسات والنظريات العلمية العالمية، على توفير أكبر قدر ممكن من المعلومات الموثوقة، حتى يتسنى للشباب العربي الاطلاع عليها دون الحاجة إلى محاولة ترجمتها عبر بعض تطبيقات محرك البحث غوغل (في ظل ما يواجهونه بسببه من صعوبات وتحديات تتمثل غالبا في مجانبته الصواب إذ لا يقدم ترجمة عربية دقيقة) أو أن يصرفوا النظر عنها بذريعة أنها مكتوبة بلغات أجنبية.
تواصل المشروع العراقي للترجمة مع شخصيات علمية عالمية
جيم الخليلي: أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة سري بالمملكة المتحدة، والمؤلف ومقدم الوثائقيات في قناة بي بي سي البريطانية. ويذكر أنه ولد في العراق وعاش أول عقد من حياته هناك. وقال حسن مازن، أحد مؤسسي المشروع، إن الخليلي “تواصل معنا عن طريق البريد الإلكتروني، على خلفية حذف فصل التطور من كتاب الأحياء للصف السادس الإعدادي وأبدى امتعاضه وإحباطه من هذا التصرف غير الداعم للعلم”.
نيل شوبين: مؤلف كتاب “السمكة داخلك” الشهير، وأستاذ الحفريات التطورية في جامعة شيكاغو الأميركية. وأوضح باعثو المشروع أن تواصل شوبين معهم جاء على هامش “ترجمتنا لوثائقي السمكة داخلك، فكانت لنا معه مقابلة حصرية وقد قمنا بترجمتها أيضا”.
بول براترمان: أستاذ الكيمياء الفخري في جامعة غلاسكو بالمملكة المتحدة، وهو مؤلف وكاتب مهتم بتبسيط العلوم، وكان قد كتب مقالا عن المشروع في ديسمبر 2017، ترجم إلى العربية في ما بعد.
جيمس يورك: أستاذ الرياضيات التطبيقية في جامعة ميريلاند الأميركية، والحائز على جائزة اليابان الاعتبارية عن عمله في تطوير مفاهيم نظرية الفوضى. وقد قام البروفسور يورك بتسجيل فيديو تعليمي قصير وحصري للمشروع يشرح فيه مبدأ عمل الأنظمة الفوضوية.
تومس ميتنزنجر: فيلسوف ألماني ومؤلف مهتم بقضايا الذكاء الاصطناعي والوعي من بين قضايا علمية معاصرة أخرى، وقد قام المشروع بعمل مقابلة معه تمت ترجمتها في وقت لاحق.
وقال البعض من مؤسسي المشروع لـ”العرب” إن ما “زاد من الحاجة إلى مثل هذه المبادرة ما تعيشه المنطقة العربية من بروز الفكر الراديكالي المتطرف وتهديده للحياة المدنية بكافة تجلياتها، واستخدامه للتكنولوجيا الحديثة لبث سمومه، في الوقت الذي يحارب فيه الأدوات التي أنتجت هذه التكنولوجيا وفي مقدمتها المنهج العلمي والتفكير النقدي والحريات وتكافؤ الفرص”.
وتابعوا “في ظل هذه المعطيات ومع عدم وجود مبادرة أو مشروع رسمي لمعالجة هذه المشكلات، يأتي المشروع العراقي للترجمة كمبادرة تطوعية لمعالجة ما تقدم ذكره”.
وقالت آمنة الصوفي، طبيبة عراقية وناشطة بالمشروع، إن “انضمامي إلى المشروع كان الهدف منه نقل المعرفة الرصينة وإغناء المحتوى العربي بما هو جديد ومفيد خاصة الجانب العلمي نظرا لشح المصادر العلمية العربية الرصينة، إننا نعمل على جعل المشروع ساحة فكرية حرة تتبنى ترجمة معظم الأفكار على اختلافها”.
وأشارت قائلة “إننا حققنا ترجمة الآلاف من المقالات ونأمل أن تتم ترجمة العديد من الكتب أيضا، بحيث يكون المشروع مؤسسة رسمية للترجمة، إذ أنه أثر في العديد من القراء المهتمين بزيارة الموقع وزيادة حصيلتهم الثقافية”.
إحياء الماضي
أوضح بول براترمان، أستاذ الكيمياء الفخري في جامعة غلاسكو في المملكة المتحدة، في مقال مفصّل عن المشروع لموقع ذا كونفرزيشن الأسترالي شرح فيه مساهمة المشروع في إنعاش العلم في العالم العربي، أن للترجمة القدرة على تغيير مسار الحضارات، مشيرا إلى المسار التاريخي للترجمة في العصر العباسي.
ولفت الدكتور المصري عبدالسلام كفافي في كتابه “في الأدب المقارن” إلى أن العرب عرفوا الترجمة منذ أقدم عصورهم، إذ كانوا “يرتحلون للتجارة صيفا وشتاء ويتأثرون بجيرانهم في مختلف نواحي الحياة وانتقلت إليهم ألوان من ثقافتهم”، ولم يكن من الممكن وجود تواصل دون ترجمة.
وتمت في زمن الدولة الأموية ترجمة الدواوين، واهتم الأمير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بحركة الترجمة.
أما في العصر العباسي فإن الفتوحات العربية واتساع رقعة الدولة العربية نحو الشرق والغرب، واتصال العرب المباشر بغيرهم من الشعوب المجاورة، كل ذاك زاد الحاجة إلى الترجمة، فقام العرب بترجمة علوم اليونان، وبعض الأعمال الأدبية الفارسية.
وبلغت حركة الترجمة مرحلة متطورة في عصر الخليفة هارون الرشيد وابنه المأمون، الذي يروى أنه كان يمنح بعض المترجمين ما يساوي وزن الكتب التي ترجموها إلى العربية ذهبا، ومن المعروف أن المأمون أسس دار الحكمة في بغداد بهدف تنشيط عمل الترجمة.
وفي الوقت ذاته بدأت الترجمة في العصر العباسي من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية، ولقد أشار المستشرقون إلى دور العرب في الحضارة الأوروبية، في تلك الفترة، كما لفت بعض الأدباء الغربيين إلى فضل علوم العرب على الغرب.
ولقد حدث أن أعيدت ترجمة كتب ككتاب “كليلة ودمنة” إلى لغتها الأم الفارسية عن النص العربي، لضياع النسخة الفارسية.
وبما أن لكل عصر خصائصه وخلفياته الثقافية والأيديولوجية، فإن الارتقاء بالجهود المبذولة على المستوى العربي بالخصوص في مجال الترجمة من أرض الواقع إلى العالم الافتراضي وتحويل مسارها من الكتب والمخطوطات إلى المقالات والفيديوهات الإلكترونية، كان ضرورة قصوى دعت إليها حاجة الشباب العربي، الذي هجر أغلبه الكتب وكره المطالعة والجلوس في المكتبات العمومية وأدمن في المقابل الأجهزة الذكية بكل ما تحتوي عليه من تطبيقات، إلى محفز جديد للاطلاع على العلوم ومواكبة الأحداث الثقافية والأخبار العلمية.
وأكد براترمان أنه “لمن المفرح أن يكون هناك مشروع معاصر للترجمة من الإنكليزية إلى العربية، يركز بشكل كبير على تبسيط المواضيع العلمية لتصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس”، مضيفا “لا شك بأن خيبة الأمل مما قاد إليه الربيع العربي تعتبر دافعا من دوافع هذه المشاريع التي تستهدف جمهورا كبيرا جدا؛ فهذه المبادرات لها صفحات على فيسبوك منظمة بشكل جيد وتستهدف ما يقرب 150 مليون مُستخدم لهذا الموقع، حسب تقديرات تقرير وسائل التواصل الاجتماعي العربي الصادر عن مبادرات دبي العالمية”.
وأشار براترمان إلى أن “المشروع العراقي يُترجم مقالات ثقافية وفيديوهات ووثائقيات، بتركيز أكبر على المواد ذات الصبغة العلمية الموجهة لجمهور غير متخصص، والتي يندر وجودها باللغة العربية، ويقوم نشاط المشروع بشكل كامل على جهود تطوعية، ويضم في الوقت الحالي ما يزيد على 50 متطوعا مؤهلين في مجال الترجمة”.
تبني شعار
تبنى المشروع الذي تم تأسيسه في الـ17 من أبريل 2013 شعار“لأن عقودا من الظلام الفكري لا تنتهي إلا بمعرفة الآخر الناجح .. لابد من الترجمة”.
وأوضح عمر أكرم المهدي، طبيب عراقي وناشط بالمشروع، أن المشروع انطلق في البداية كردّة فعل على المستوى البائس الذي قدمته فعاليات “بغداد عاصمة الثقافة العربية” في عام 2013، تحت شعار “لأنّ عقودا من الظلام الفكري لا تنتهي إلّا بمعرفة الآخر الناجح.. لابُـدّ من الترجمة”. وشدد على أن “المشروع يُعنى برفع مستوى الثقافة لدى الناس، وإبراز قُدرة العلوم على تنمية الشباب وتوجيههم للإطلاع والقراءة من خلال الترجمة”.
145 ألف متابع لصفحة المشروع على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بسبب غزارة المواد المترجمة
وأضاف لـ”العرب” أن “الوضع الراهن لحركة الترجمة العربية يوفر مصدرا ملائما يستعين به المترجمون العرب على ولوج هذه الطريق الوعرة”، متابعا لقد “وجدنا في هذا المشروع دعوة موجّهة نحو تحفيز المزيد من الاهتمام بالترجمة وإخراجها من الاجتهادات الذاتية الضيقة إلى النّظرة العلمية الموضوعية الشاملة”.
وأكد أن المشروع استطاع أن يجذب اهتمام بعض الشخصيات ذات المكانة العلمية المرموقة، موضحا “أجرينا مقابلة مع العالم نيل شوبين؛ بعد أن ترجم المشروع فيلمه الوثائقي ‘السمكة داخلك’، كما التقى المشروع أيضا بالفيلسوف الألماني توماس ميتزنجر”. وختم قوله “في أحد الأيام كنت أشاهد إحدى الحلقات الخاصة بـ’السمكة داخلك’ على قناتنا في موقع اليوتيوب، وانتابني الفضول لقراءة التعليقات، فوجدت أحدهم كاتبا “ما يعجبني في هذه القناة هو إصراركم على نشر المعرفة، رغم قلة التفاعل ولايهمكم من ذلك، استمروا'”.
ويحمل المشروع جملة من الأهداف الرامية إلى رفع مستوى المحتوى الإلكتروني العربي تتلخص بالأساس في خمس نقاط وهي: إثراء المحتوى العربي الإلكتروني بالمعرفة النوعية الموثوقة، والترويج للمنهج العلمي ونتاجاته وإبراز قدرة العلوم على توجيه التنمية المجتمعية، ودرء الخرافات ومحاربة العلوم الزائفة وإشاعة التفكير النقدي، وبناء وعي الشباب وتوجيههم للإطلاع على ثقافة الآخر الناجح والقراءة عنها بشكل مستمر، والترويج لحقوق الإنسان وإشاعة أهمية التعايش السلمي والتسامح.
كما أن الوسائل التي يعتمدها المشروع لتحقيق هذه الأهداف تتمثل في تصميم وإعداد مواد علمية ومعرفية على شكل وسائط متعددة، إلى جانب إقامة فعاليات والتواصل مع الجهات ذات العلاقة (الحكومية/قطاع خاص/مؤسسات المجتمع المدني) والتعاون مع المشاريع والمبادرات ذات الأهداف المشتركة، بالإضافة إلى ترجمة المقالات والأفلام الوثائقية ووسائط نقل المعرفة الأخرى.
وبين أحمد الوائلي، أحد مؤسسي المشروع، أن “الهدف من تأسيس المشروع هو جذب الشباب نحو القراءة وتحفيزهم على الاطلاع عن طريق ترجمة آخر المقالات والأخبار والبحوث المنشورة في المجلات العلمية إلى اللغة العربية، بهدف الرفع من مستوى ثقافة المتابعين”.
وأكد أن “غزارة الإنتاج من مادة مترجمة وتصاميم وفيديوهات بشكل مستمر دون انقطاع أدت إلى استقطاب أكثر من 145 ألف متابع لصفحة المشروع على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وأكثر من 30 ألف زيارة شهريا لموقع المشروع الإلكتروني”.
وأضاف الوائلي “من إنجازاتنا نشر كتاب ألعاب علمية (منشور عن دار المعقدين – البصرة، العراق)، إضافة إلى العديد من الكتب الإلكترونية، إلى جانب مجلة المشروع الإلكترونية والتي تصدر بصورة دورية”.
ويعتمد المشروع العراقي للترجمة على جهود المتطوعين من جنسيات عربية مختلفة (مصريين/سوريين/سعوديين) الذين يجيدون اللغة العربية، بالإضافة إلى لغة أجنبية واحدة على الأقل، ويتم اختيار المواد من المصادر المعروفة بموثوقيتها وبعد ترجمتها، تخضع لعملية مراجعة وتدقيق لغوي قبل نشرها.
ويتم نشر المقالات على الموقع الرسمي للمشروع، إذ أن هذه المبادرة العراقية تتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر وقنوات على موقعي يوتيوب وفيميو، منصة لها للتواصل مع القارئ، إلى جانب أن للمشروع مجلة إلكترونية يصدرها بين فترة وأخرى تتضمن البعض من أبرز ترجماته لتسهيل تخزينها ومطالعتها والوصول إليها من قبل القراء.
ولفت باعثو المشروع إلى أنهم قاموا حتى الآن بترجمة ما يزيد على 2500 مقال في مختلف التخصصات (بمعدل 40 مقالا في الشهر)، كما ترجم ما يربو على 70 فيلما وثائقيا في مختلف التخصصات (بمعدل 14 فيلما وثائقيا في العام الواحد)، بالإضافة إلى ما يزيد على 200 مقطع فيديو تعليمي بنكهة علمية (حوالي 1500 دقيقة من الفيديوهات التعليمية)، إلى جانب ترجمة كتاب “ألعاب علمية” وهو كتاب تجارب علمية موجه للفئات العمرية من 10 إلى 15 عاما، وقد صدر عن دار المعقدين في 2017.
آراء بعض المتطوعين
* صرحت آلاء عبدالأمير، عراقية حاصلة على بكالوريوس في علوم الحياة وناشطة بالمشروع، في حديثها لـ”العرب” بأن “انضمامها إلى المشروع كان في البداية بهدف تمضية بعض وقت فرغها بعمل مفيد”.
وأضافت “اكتشفت بسرعة أن الانضمام إلى المشروع يمثل في الحقيقة خطوة مهمة لاكتساب خبرة في الترجمة”.
وتابعت “هذا على الصعيد الشخصي، أما في ما يخص التأثير العام، فلا يمكن إنكار الدور المهم للمشروع في حركة الترجمة التي بدأت تنشط في المنطقة وعلى منصات المواقع الاجتماعية، فاتحة الباب أمام نقل العلوم بكل فروعها وتقريبها خطوة إضافية من المهتمين والباحثين عن المعرفة”.
* قال نعمان البياتي، مهندس معماري ومُحاضر في جامعة عشق – أربيل بالعراق، “كنت قد سمعت عن المشروع العراقي للترجمة نهاية عام 2014، وكنت حينها في مدينتي، الموصل؛ وعلى الرغم مما كنا نعايشه من متاعب إلا أنني كنت أتابع المشروع”. وتابع “بعد انتهاء المعركة أسرعت وتطوعت وبدأت أقدم يد المساعدة، فكنت أستمتع بالترجمة ولا أزال، فأنا لا أترجم فحسب بل أستغل الفرصة لأقرأ وأتعلم أيضا”.
وشدد على أن ذلك يجعله على اطلاع بـ”آخر طرق العلاج في الطب، وأحدث ما وجد العلماء؛ أنا أفهم من خلاله نظريات الفيزياء، وأنظر من خلال عيون الآخرين إلى التغيّرات”.