مشروع "الفيلق الأفريقي" الروسي يصطدم بألغام ليبية

موسكو - كشف تقرير روسي حديث عن "ألغام" معقدة تعترض طريق موسكو في سعيها لتعزيز نفوذ فصيلها المسلح المعروف بـ"الفيلق الأفريقي"، الوريث الجديد لقوات "فاغنر" المتلاشية في ليبيا مع مقتل زعيمها يفغيني بريغوجين.
وسلط تقرير لموقع "ريدل" الضوء على التوترات الأمنية والعسكرية التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس منذ منتصف مايو الماضي، إضافة إلى تحديات تتعلق بانتقال السلطة داخل معسكر الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، مما يهدد استراتيجية الكرملين في المنطقة.
وقال التقرير إن "طرابلس عاصمة غرب ليبيا أصبحت ساحة معركة لمختلف الفصائل التي تدعم حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها بقيادة عبدالحميد الدبيبة"، مضيفا أنه "من المفارقات أن الأزمة اندلعت بسبب محاولة الدبيبة تعزيز السلطة، وهي خطوة حثت عليها الجهات الفاعلة الدولية".
وتابع "مع ذلك، كانت خطوات الدبيبة نحو المركزية خرقاء وافتقرت إلى براعة عقد الصفقات خلف الكواليس - والتي تحققت أساسا من خلال مقتل عبد الغني الككلي، قائد "جهاز دعم الاستقرار" العسكري في طرابلس.
وأشار إلى أنه بعد وفاة الككلي - سواء أكان ذلك عرضيا أم نتيجة كمين متعمد - بدأت القوات الموالية لوزارة دفاع حكومة الوحدة الوطنية، وفي مقدمتها اللواء 444 بقيادة محمود حمزة، في الاستيلاء على مرافق الجهاز في أحياء طرابلس، ما أدى إلى اشتباكات مسلحة واحتجاجات عامة وموجة جديدة من الاضطرابات السياسية في منطقة يتكون فيها جهاز الأمن الرسمي لحكومة الدبيبة بشكل أساسي من تشكيلات تشبه الشركات العسكرية الخاصة، والتي تتصادم بشكل دوري مع بعضها البعض.
وذكر التقرير أن مركز قوة ليبيا آخر، يمثله قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، استغل هذا الوضع وبدأ بنقل وحدات من قواته إلى مناطق أقرب إلى الغرب، من بنغازي إلى سرت، مدللا على أن "تكتيكات حفتر السابقة في استغلال الانقسامات بين قوات غرب ليبيا" من خلال الضغط تجعل محاولات الجيش الوطني الليبي المتجددة للانتقام من هزيمته عام 2020 ليست
وأشار التقرير إلى أن "القوى الخارجية تلعب دورا مهما في استقرار الوضع"، لافتا إلى تركيا، التي أنقذت طرابلس سابقًا من سيطرة الجيش الوطني الليبي، وروسيا، التي رسّخت وجودًا غير رسمي في جميع المواقع العسكرية شرق ليبيا تقريبًا.
بالنسبة لموسكو، يرى التقرير أنها لا تزال تكافح للحفاظ على نفوذها في سوريا ما بعد الأسد، لافتا إلى أن أي محاولات جديدة من حفتر للسيطرة الكاملة على ليبيا "قد تكون لها عواقب وخيمة"، مما قد يُقوّض مشاريع "الفيلق الأفريقي" المتعثرة أصلًا في جميع أنحاء القارة. ومع ذلك، يتابع التقرير "حتى بدون مغامرة عسكرية جديدة من حفتر، فإن وجود موسكو متوسط المدى في ليبيا يفتقر إلى آفاق واضحة".
وعلى مدار العقد الماضي، تغير موقف روسيا من ديناميكيات القوة الداخلية في ليبيا بشكل متكرر، بحسب موقع "ريدل" الذي يرى أن انحياز موسكو في بعض الأحيان علنا إلى خليفة حفتر، "كان فقط لموازنة هذا الميل لاحقا من خلال تكثيف الاتصالات مع سلطات طرابلس"، مشيرا إلى أن "مسار السياسة الخارجية المتعرج ارتبط بنجاحات وإخفاقات ساحة المعركة في ليبيا"، حيث سارع الكرملين بعد فشل هجوم قوات حفتر المدعومة من "فاغنر" على طرابلس، إلى تعديل إجراءاته لصالح السلطات في غرب ليبيا. بالإضافة إلى ذلك، أدت "الانقسامات الداخلية داخل النخبة الروسية - حيث دعت وزارة الخارجية إلى الحوار مع طرابلس، بينما دعمت وزارة الدفاع حفتر، وافتقر الكرملين إلى الإجماع - إلى المزيد من التقلبات السياسية".
بحسب التقرير، يعتقد خبراء عسكريون روس أن الصراع المشؤوم بين قائد "فاغنر" يفغيني بريغوجين ووزير الدفاع آنذاك سيرجي شويغو تصاعد في البداية بسبب الأحداث الليبية، وعززت قوات بريغوجين مواقع القوات الروسية النظامية في شرق ليبيا، ومع ذلك، سرعان ما اكتسب بريغوجين اليد العليا، مطالبا بالاعتراف بخبرة فاغنر في كل من القوة "الصارمة" و"الناعمة" على الأرض.
ووفّر هذا الصراع ثروة من المعلومات، لكن قصة "فاغنر" في ليبيا انتهت في سبتمبر 2023، بعد القضاء على بريغوجين، وقتها هدد مرتزقة روس في قواعد ليبية بضرب منشآت وزارة الدفاع الروسية القريبة إذا لم يسمح الجيش فورا لطائرة نقل تابعة لـ"فاغنر" - كانت تقل أكثر من 100 من أفراد أمن بشار الأسد من "مهمة ليبية" - بالهبوط في سوريا. كان هذا على الأرجح القشة التي قصمت ظهر البعير، والتي انسحب بعدها مرتزقة فاغنر بالكامل من سوريا وليبيا، ليحل محلهم "الفيلق الأفريقي" الخاضع لسيطرة وزارة الدفاع بالكامل. وفقا للتقرير.
وبعد سقوط نظام الأسد وتقليص الوجود الروسي في سوريا، مع نقل السلاح فعليا من قاعدتي طرطوس وحميميم، "أصبحت المرافق الليبية معقلًا رئيسيًا لبسط نفوذ الكرملين في أفريقيا والشرق الأوسط"، وفق التقرير الذي أشار إلى أنه لا يمكن لوجستيًا إمداد وتدوير "الفيلق الأفريقي" في غرب أفريقيا، خاصة بوركينا فاسو والنيجر ومالي، دون الاعتماد على مرافق في مناطق نفوذ حفتر.
وإزاء ذلك، يرجح التقرير أن تكون زيارة حفتر إلى موسكو في مايو 2025 كانت تهدف إلى الإعلان رسميا عن مرحلة جديدة في سياسة الكرملين تجاه ليبيا، كما حضر حفتر استعراض يوم النصر إلى جانب رؤساء دول أخرى، وأجرى محادثات مع شويغو أمين مجلس الأمن الروسي الحالي محاطًا بقيادة الاستخبارات العسكرية، وفي 10 مايو استقبل فلاديمير بوتين حفتر في الكرملين، ثم استقبله لاحقًا - على الأرجح بعد تلقيه تطمينات من الرئيس - وزير الدفاع الحالي أندريه بيلوسوف.
ومع ذلك، لا يزال موقف موسكو غامضا، وفق التقرير، إذ تقع سفارة روسيا في ليبيا في طرابلس فقط، كما عرقلت وزارة الخارجية باستمرار افتتاح قنصلية في بنغازي، على الرغم من الوجود الكبير للعسكريين الروس في شرق ليبيا.
ويرجح التقرير أن يدفع التصعيد في طرابلس، في ظل استقرار الشرق، موسكو نحو دعم أوضح لحفتر، لكنه قلل من فرص هذا المسار، فموسكو، على الرغم من استثماراتها في حفتر، تُدرك جيدًا وجود "قنبلة موقوتة" في شرق ليبيا، وهي قنبلة لا تستطيع نزع فتيلها حتى لو رغبت في ذلك، والمتمثلة في انتقال السلطة من حفتر، البالغ 81 عامًا، ويُعاني من مشاكل صحية.
ونظرا لقلقه بشأن انتقال السلطة الوشيك، سعى حفتر منذ فترة طويلة إلى تفويض السلطة إلى أبنائه، وفي مقدمتهم صدام وخالد. ويُعد صدام حفتر المنافس الرئيسي لقيادة "الإمبراطورية الشرقية"، بحسب وصف التقرير، الذي وقف على مراحل صعوده لقيادة القوات البرية.
ويُسيطر صدام على وحدات أخرى قادرة - كتائب وألوية مُجهزة جيدًا ومدربة وفقًا للمعايير المحلية. يتكون لواء طارق بن زياد بشكل أساسي من السلفيين المدخليين، مما يجعل ادعاءات حفتر بمحاربة "التكفيريين" سخيفة ويقوض الحملة الإعلامية لوزارة الدفاع الروسية، المبنية على دعم الأنظمة التي يُزعم أنها تُحارب "الإسلاميين".
وعُيّن خالد، أحد أبناء حفتر، عام 2024 لقيادة الوحدات الأمنية التابعة للجيش الوطني الليبي، المتمركزة حول اللواء 106، الذي يعتمد أيضًا على جماعات سلفية مختلفة. يسمح توزيع السلطة العسكرية بين الأخوين (لدى أبناء حفتر الآخرين طموحات سياسية أقل لأسباب مختلفة) لعائلة حفتر بالسيطرة على شرق ليبيا، ولكنه يُثير مخاطر: إذ لا يزال من غير الواضح كيف سيتصرف صدام وخالد في حال وفاة والدهما أو عجزه.
ومشهد آخر معقد في ليبيا يتمثل في موقف القبائل الجنوبية، التي طالما وجد حفتر معها أرضية مشتركة في الأوقات الصعبة، لكن بعضهم يُفضّل سيف الإسلام، نجل معمر القذافي، على أبناء حفتر. وبينما يُرهق الليبيون الحروب الأهلية -وهو عامل قد يكون بالغ الأهمية خلال مرحلة انتقال السلطة - فإن مسألة توزيع الموارد قد تطغى على الرغبة في تحقيق الاستقرار السريع، وهو ملمح آخر أشد تعقيدا.
مع ذلك، تبقى القضية المحورية هي التوافق داخل عائلة حفتر، إذ يشير التقرير إلى رأي يسود بين كبار الخبراء، مفاده أن إظهار حفتر الوئام العائلي ليس سوى واجهة، في ظل منافسة جدية بين الإخوة في الواقع.
وعلاوة على ذلك، من غير المؤكد ما إذا كان صدام، في حال انسحاب والده، قادرًا على إقناع الألوية والكتائب الموالية له بالبقاء على ولائه. ومن غير المرجح أن تمر "حملة التطهير المستمرة التي تنفذها القيادة العامة، والتي أدت في عام 2024 وحده إلى فصل ما يقرب من 3000 ضابط وجنرال، دون عواقب خلال فترة انتقال السلطة". وقد يشعر البعض من بين الجيل الأصغر سنًا الذي تقدم بسرعة في السنوات الأخيرة بالاستياء والارتباط بـ"الحرس القديم"، مما أدى إلى تهميشهم ليس فقط من السلطة، بل أيضًا من مصادر الدخل.
ويدرك الخبراء جيداً الاقتصاد الموازي في شرق ليبيا، حيث يتشابك تهريب النفط مع تجارة المخدرات والبشر، مع غسل العائدات والنشاط الغامض لصندوق الإعمار الذي يتولاه بلقاسم حفتر.
ولذلك يتوصل التقرير إلى نتيجة مفادها أن المعادلة الأمنية الحالية في شرق ليبيا تعتمد على "علاقات دولية واسعة النطاق أقامها صدام وخالد، مع حلفاء كروسيا ومصر والسعودية والإمارات، بالإضافة إلى خصوم كتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل وغيرها".
ويتسم دور تركيا في ليبيا الحديثة بالتناقض الشديد، فقبل بضع سنوات كانت أنقرة الخصم الرئيسي لعائلة حفتر، مما ساهم في فشل الجيش الوطني الليبي في السيطرة على البلاد بأكملها، أما الآن فشركات البناء التركية تشارك في العديد من مشاريع البنية التحتية في شرق البلاد.
ويرى التقرير أن هناك أسبابا للاعتقاد بأن صدام وخالد يسعيان للحصول على دعم من جهات فاعلة مختلفة: الأول من دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والثاني بشكل رئيسي من روسيا وبيلاروسيا.
وتشير الشائعات إلى أن السرية المحيطة ببناء قاعدة لصالح "الفيلق الأفريقي" مرتبطة بجهود خالد لإثبات قدرته على تزويد روسيا بمركز لوجستي رئيسي لنقل البضائع والأفراد إلى بوركينا فاسو ومالي والنيجر والسودان حتى في منطقة تخضع لسيطرة صدام.
وإذا كانت ديناميكية القوة هذه دقيقة، فإن آفاق «الفيلق الأفريقي» - وهو مشروع يهدف إلى استبدال فلول "فاغنر" في المنطقة الخاضعة لسيطرة المخابرات العسكرية الروسية - قد تكون في خطر وتعتمد بشكل كبير على قدرة عائلة حفتر على التوصل إلى أي توافق، وحتى لو جرى التوصل إلى توافق، فإن الجهات الخارجية التي يعتمد عليها ستكون ذات أهمية كبيرة.
ويختتم التقرير بأن "موسكو تُفضّل أن تكون المنافسة بين أبناء حفتر لعبةً تكتيكيةً" تهدف إلى الحصول على تنازلات من جميع الأطراف وإظهار أهمية عائلة حفتر، إن لم يكن للبلاد بأكملها، فعلى الأقل لنصفها الشرقي. مع ذلك، يُرجّح أن الكرملين "تجاهل تحذيرات الخبراء من أن انتصار الأسد في الحرب الأهلية السورية كان وهمًا وأن انهيار نظامه كان شبه حتمي. وعواقب هذا الخطأ في التقدير معروفةٌ جيدًا"، وفق التقرير.