مشروع إعلامي مغاير
لم يأت مشروع صحيفة “العرب” مصادفة، ولم يكن مشروعا ربحيا منذ لحظة انطلاقه الأولى وإلا ما استطاع أن يستمر لتنشر “العرب” اليوم عددها رقم عشرة آلاف.
كان حلم الوالد، رحمه الله، من البداية إقامة مشروع إعلامي مختلف عن البقية، وهو الذي عمل وزيرا للإعلام في العهد الملكي، والذي ظل نظام معمر القذافي يطارده ويضيّق عليه سنوات طويلة.
و”العرب” امتداد لذلك المشروع الحلم الذي أراد أن ينجزه على أرض الواقع لكن حال انقلاب القذافي في 1 سبتمبر 1969 دونه.
وفي افتتاحية العدد الأول بتاريخ 1 يونيو 1977، أكد الوالد أن حرية النشر في لندن، التي لجأ إليها لتحقيق هذا الحلم، ستمكن الصحيفة الوليدة من التعبير الكامل عن المجتمع العربي في المهجر في ظل غياب المقص والرقيب والسجون والمنافي، في إشارة إلى ما كان يتهدد الإعلاميين العرب وقتها في بلدانهم.
ومع ظهورها كأول صحيفة عربية يومية تصدر من لندن، وتوزع في جميع العواصم الأوروبية، حملت “العرب” تحديين بارزين؛ الأول أن تكون صحيفة بريطانية تلتزم بتقاليد الصحافة العريقة هنا، وعلى رأسها حرية الرأي، وكانت الصحيفة ملاذا لمئات من المهجرين العرب لأفكارهم السياسية، ودون أن تكون فضاء لتصفية الحسابات ضد هذا ومع هذا.
|
وأكسب هذا الرهان “العرب” مصداقية كبيرة حتى لدى الأنظمة التي تنتقدها، خاصة أن رئيس التحرير كان يقول لأيّ حاكم عربي أحسنت إذا قام بشيء إيجابي، وينتقده إذا أخطأ أو اتخذ موقفا يرى الحاج الهوني أنه يتناقض مع مصالح الأمة، أو قيم التطوير والتحديث اللازمة.
أما التحدي الثاني فحمله الاسم الذي أطلقه عليها فقيد الصحافة العربية، لتكون صوت العرب كأمّة تدافع عن قضاياهم دون أن تسقط في الشوفينية ومعاداة الأعراق والطوائف الأخرى، وعلى العكس سعت الصحيفة إلى أن تدافع عن حقوق مختلف الأقليات في الأمة دون تمييز، بل وانحازت إلى جانب الأقليات حتى في صراعها مع الأنظمة التي كانت محسوبة على القومية العربية.
ولم يكن مضمون تقدم العرب في فكر الحاج أحمد الصالحين الهوني، هو ترديد الشعارات عن الوحدة والمصير المشترك، بل ذهب إلى ما هو أعمق، أي ما به تتقدم الشعوب بعرض الأفكار التي تمكّن من تطوير التعليم والتربية، وتحقق الاكتفاء الذاتي في صناعة الغذاء والدواء.
آمن بالعروبة والقومية فمنحهما قلبه وقلمه، ودافع عن الوحدة بين العرب بتقديم مقترحات عملية تسهّل فتح الحدود بين مختلف الأقطار، وما لذلك من فوائد يلمسها المواطن العربي، وحث على الاعتماد على العمالة العربية دون غيرها، وما لهذا الخيار من فضل في الحفاظ على هوية الأمّة وأخلاق النشء بها، وذلك قياسا بمساوئ العمالة الوافدة من جنوب شرق آسيا.
وفيما كان يعالج الخلافات بين العرب بالخطاب الهادئ والموعظة الحسنة، كان دفاعه شرسا بمواجهة محاولات الاختراق الخارجي للأمّة، وخاصة من جانب إيران سواء في حربها على العراق في 1980، أو من خلال توظيف جماعات إسلامية عربية في تحقيق خطتها لـ”تصدير الثورة”.
وحملت افتتاحيات “العرب”، التي تصدرت الصحيفة على مدى 30 سنة، بين سطورها إيمانا عميقا بأن الشعوب العربية ستثور. وتنبأت بأن الجماعات التي تخلط الدين بالسياسة يمكن أن تتآمر على الأمة، وهو الأمر الذي نعيشه الآن، وتستمر صحيفة “العرب” بالتصـدي له خاصة أن مشاريع هذه الجماعات أصبحت أكثر خطورة بعد أن خرجت إلى العلن وفضحها صعود الإخوان إلى السلطة في موجة “الربيع العربي” في أكثر من دولة قبل أن تطيح بهم الشعوب سريعا.
ولئن أربكنا رحيل الوالد في 18 أبريل 2006، وثارت شكوك حول قدرة الصحيفة على الحفاظ على هذا الإرث القيمي والأخلاقي لمشروعه الإعلامي، فإننا، وبحول الله، نستمر لأكثر من تسع سنوات في الحفاظ على تلك الثوابت مع التفاعل مع المستجدات، سائرين على نهجه، منفذين لوصيّته بمواصلة الذود عن مبادئ “العرب” التي كانت، وما تزال، لسان حال كلّ العرب من المحيط إلى الخليج.
“العرب” اليوم تشهد نقلة نوعية في آليات عملها، وتنوعت نشريّاتها بالعربي والإنكليزي، لكن مازلنا نؤمن بأن أمامنا الكثير لنفعله لنكون دائما بالصف الأول في محيط إعلامي متقلب ولا يتوقف على حال.
رئيس التحرير والمدير العام