مشاهد حرب غزة تشكل الرأي العام وتعيد النظر في السياسة بالعالم العربي

يرصد استطلاع رأي أجري في تونس تغير الرأي العام والموقف الشعبي العربي من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي فتونس تُعد مؤشراً واضحاً وقوياً على التغير الحادث عبر المنطقة.
غزة - مع استمرار القصف الإسرائيلي على غزة، هناك جيل جديد يرى أهوال ما يحدث على شاشات التلفزيون وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بما يشمل صورا مأساوية لجثامين القتلى والمعاناة التي تعرضت لها العائلات، وهي مشاهد من الصعب نسيانها وتساهم في تشكيل الرأي العام في دول عديدة ومنها تونس.
وتوضح آراء الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أطيافهم ومستوياتهم الثقافية ومناصبهم أن الكلفة الإنسانية المرتفعة للحرب على غزة تردد صداها في العالم العربي، وانعكست على الآراء بشأن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
وبحسب تقرير نشرته “فورين أفيرز” الأميركية استنادا إلى استطلاع رأي نفذت الشبكة البحثية غير الحزبية، الباروميتر العربي في تونس بمساعدة الشريك المحلي “وان أون وان للبحوث والاستطلاعات”، في الأسابيع السابقة على الهجوم على غزة وفي الأسابيع التالية عليه، أظهر كيف غيّر الهجوم والحملة العسكرية الإسرائيلية الآراء العربية.
التحول في الرأي العام التونسي لا يشير إلى ردود فعل متعجلة ومؤقتة بل للمحصلة النهائية لتراكم الأحداث في الإعلام
وبحسب المجلة الأميركية فإن النتائج مدهشة فالرئيس الأميركي جو بايدن كان قد حذّر مؤخراً من أن إسرائيل تخسر الدعم العالمي لها بسبب غزة، لكن هذا ليس إلا غيض من فيض. فالتحولات والتغيرات في الرأي العام كانت دراماتيكية.
ومن غير المعتاد أن تتم تغيرات في ظرف أسابيع قليلة على هذا النطاق الواسع، لكن التحول الكبير في الرأي العام التونسي لا يشير إلى ردود فعل متعجلة ومؤقتة، إذ أن آراء الشعب التونسي قد تغيّرت تدريجياً، قليلاً كل يوم على مدار فترة الأسابيع الثلاثة، والمحصلة النهائية لهذا التراكم هو تحول كبير في الآراء على مدار الفترة كاملة.
ويعتبر معدو التقرير د. مايكل روبينز، د. ماري كلير روش، د. أماني جمال، سلمى الشامي، ود. مارك تيسلر، أن الأهم هنا رصد كيف أن آراء التونسيين التي تغيرت لم تكن نتيجة لهجوم حماس، إنما بسبب الأحداث اللاحقة على الهجوم، وهي بالأساس تزايد الخسائر في صفوف المدنيين جراء العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة. وهو نتيجة لمتابعتهم المكثفة للقنوات الإخبارية ومقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي.
وزادت الحرب قطعاً من دعم التونسيين لنضال الفلسطينيين. مقارنة بمرحلة الاستطلاع التي تمت قبل هجوم 7 أكتوبر، حيث يتبين أن تونسيين أكثر بكثير حالياً يرغبون في أن يتوصل الفلسطينيون إلى تسوية للنزاع مع إسرائيل باستخدام القوة وليس بالتسوية السلمية.
وليست تونس إلا دولة واحدة من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة بها اختلافات وتفاوتات كبيرة، ولا يمكن لهذا الاستطلاع أن يخبر الخبراء بكل شيء عن كيف يفكر ويشعر الناس في شتى أنحاء المنطقة. لكن تُعد تونس مؤشراً واضحاً وقوياً على التغير الحادث عبر المنطقة.
وفي استطلاعات الباروميتر العربي السابقة، كانت آراء التونسيين مماثلة لآراء المواطنين عبر أغلب الدول العربية الأخرى. والتونسيون منفتحون على الغرب لكنهم منفتحون أيضاً على قوى عالمية أخرى، مثل الصين وروسيا.
وتعتبر تونس بعيدة جغرافياً بعض الشيء عن الآثار المباشرة للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، لكن لها تاريخ من المشاركة المباشرة إذ استضافت من قبل منظمة التحرير الفلسطينية. ويرى المحللون والمسؤولون أن آراء الناس في بلدان المنطقة الأخرى قد تغيّرت بقدر مماثل للتغيرات المشهودة في تونس.
ويتشكل الرأي العام بشكل رئيسي مما يتلقاه الجمهور من ضخ إعلامي حتى في النظم غير الديمقراطية، حيث يتعين على القادة أن يقلقوا من الاحتجاجات المحتملة، وحيث تعيد هذه الآراء المتغيرة تشكيل السياسة في العالم العربي، كما تعيد تشكيلها على مستوى العالم.
وحدثت تحولات عديدة، لكن أكبر تحوّل متصل بتصورات الجمهور حول الولايات المتحدة في المقابلات الـ 1146 التي تمت قبل هجوم 7 أكتوبر، كان لدى 40 في المئة من التونسيين آراء إيجابية أو إيجابية إلى حد ما تجاه الولايات المتحدة، مقارنة بـ56 في المئة كانت آراؤهم غير إيجابية. لكن بعد بدء الحرب في غزة، تغير ذلك بشكل سريع.
ففي نهاية العمل الميداني للباحثين كان لدى 10 في المئة فقط من التونسيين آراء إيجابية تجاه الولايات المتحدة، وكان 87 في المئة لديهم انطباعات غير إيجابية. كما أنه قبل 7 أكتوبر كان 56 في المئة من التونسيين يرغبون في تحسين العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وبعد ثلاثة أسابيع من 7 أكتوبر تراجعت هذه النسبة إلى 34 في المئة.
ولم يكن بايدن يتمتع بالشعبية الكبيرة في تونس في أي وقت، حيث بلغت نسبة استحسانه 29 في المئة قبل 7 أكتوبر. لكن بعد بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية وإعلان بايدن الدعم الأميركي “غير المشروط” تراجعت شعبيته بواقع 6 نقاط مئوية.
واستنادا إلى تغير الآراء والرأي العام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإنه على الولايات المتحدة والحلفاء الإقليميين القلق بشأن مواجهة صعوبة كبيرة في التوسع في اتفاقات أبراهام، التي يتم بموجبها تطبيع العلاقات بين دول عربية عديدة وإسرائيل. كما قد تخسر واشنطن في تنافسها مع تصاعد سمعة الصين وعودة روسيا إلى المنطقة.
وربما قد تجد الولايات المتحدة أن الكثير من الحلفاء المقربين مثل السعودية والإمارات قد يصبحون أقل وداً نحوها وأكثر تقبلاً لمنافسيها، في سعي هؤلاء الحلفاء إلى تجنب الآثار السلبية لتداعيات الموقف على المستوى الإقليمي. فمنذ الهجوم على سبيل المثال رحّبت الدولتان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارته الأولى إلى المنطقة منذ غزو أوكرانيا.
كما قد تظهر تداعيات خطيرة للدعم المتزايد للمقاومة المسلحة. فالحرب ضد حماس لم تؤد بعد إلى اتساع النزاع، لكن اضطرت إسرائيل لصد هجمات من حزب الله في لبنان، ويعاني الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من احتمالات تصاعد الاضطرابات وانعدام الاستقرار. وليس من الصعب تخيّل كيف يمكن أن يتصاعد الغزو الحالي أو كيف يمكن أن يفتح الباب أمام مستقبل من النزاعات.
ولدعم الاستقرار في المنطقة، يتعين على إسرائيل وحلفائها البحث عن سبل لإنهاء هذه الحرب، ومن ثم السعي سريعاً لتسوية النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني بشكل سلمي.
أما الآراء حول تركيا على النقيض فقد ظلت إلى حد بعيد كما هي دون تغيير يُذكر. إذ لطالما مارست أنقرة ضخا إعلاميا لتسليط الضوء على خسائر الفلسطينيين وإبداء التعاطف معهم، ولو كان هذا دون تدخلات ملموسة. وقد أبدى 68 في المئة من التونسيين آراء إيجابية حول تركيا قبل الهجوم وبعده. ورغم تراجع الآراء حول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من 54 في المئة إلى 47 في المئة، فإن نسبة من يرغبون في علاقات اقتصادية أقوى مع تركيا زادت من 57 في المئة إلى 64 في المئة.
الرئيس الأميركي جو بايدن كان قد حذّر من أن إسرائيل تخسر الدعم العالمي لها بسبب غزة، لكن هذا ليس إلا غيض من فيض فالتحولات والتغيرات في الرأي العام كانت دراماتيكية
ورغم أن الاستطلاع لا يشمل آراء المواطنين حول إيران نفسها، فلقد طرح سؤالاً حول السياسات الخارجية للمرشد الأعلى علي خامنئي، ويبدو بوضوح أن شعبية هذه السياسات قد زادت في أوساط التونسيين فقبل الهجوم، كان 29 في المئة فقط يستحسنون سياساته الخارجية. وبنهاية فترة العمل الميداني للاستطلاع، ارتفعت هذه النسبة إلى 41 في المئة. وبلغ هذا التحسّن في الشعبية أعلى معدلاته في الأيام التالية على كلمة خامنئي في 17 أكتوبر.
وتعد تونس بعيدة جغرافياً عن إسرائيل، وإقبال سكانها المتزايد على تحبيذ المقاومة المسلحة لا يُرجّح أن يؤثر على الحرب بشكل مباشر. لكن إذا حدثت تغيرات مماثلة في آراء المواطنين عبر دول عربية أخرى، فقد يشتعل القتال على حدود إسرائيل أكثر. ومن المرجح أن الغضب تجاه إسرائيل قد تنامى في الدول القريبة جغرافياً من منطقة النزاع، وفي الدول المستضيفة للاجئين فلسطينيين، مثل الأردن ولبنان. إذن فاحتمالات تصاعد العنف هي احتمالات جادة وخطيرة. ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على كل حال معرضة لمخاطر النزاعات الجارية أكثر من أيّ منطقة أخرى في العالم.
والحقيقة الأبسط وفقا للتقرير هي أن القضية الفلسطينية ستبقى مهمة للغاية للعالم العربي، ولا يمكن لإسرائيل أن تأمل في الانتصار بالقنابل ببساطة. فهذه القضية لم تفقد زخمها في أعين الجيل الجديد. ففي ظرف 20 يوماً فقط تغيرت آراء التونسيين حول مختلف الأطراف في العالم بشكل قلما نشهده على مدار سنوات. ولا توجد قضية في العالم العربي يتعاطف معها الناس بشكل شخصي وعاطفي بقدر هذه القضية.
والزخم الكبير المشهود حول هذه القضية مدهش للغاية خصوصاً على ضوء تحديات تونس الداخلية. فالدولة تعاني حالياً من تراجع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسب أعلى قياساً إلى ما قبل ثورة 2010. ورغم ذلك لا يزال التونسيون يرغبون في علاقات اقتصادية أضعف مع الولايات المتحدة. إذ تبين تفضيل التونسيين للارتباط الدولي مع القضية الفلسطينية على تفضيلهم المساعدة الدولية في التنمية الاقتصادية لصالحهم، بهامش كبير أي نسبة 59 في المئة دعماً للسعي الدولي لحل القضية الفلسطينية مقابل 4 في المئة دعماً للمساعدة في التنمية الاقتصادية.