مسلسل سوري يختار الوقوف على "مسافة أمان"

دائما تطرح مسألة الانتقال من النص أو السيناريو المكتوب، إلى العمل المرئي، جدلا خاصة في ما يتعلق بالإضافة أو التشذيب الذي تفرضه عين المخرج وتشكل العمل في مادته الصورية. وهذا ما يجعلنا نخلص إلى أن عمل المخرج وفريق العمل في التحول من نص مكتوب إلى عمل للمشاهدين هو مربط نجاح العمل الدرامي من عدمه.
تثيرك فكرة أن تقرأ سيناريو عمل دراميٍّ تلفزيوني وتراه لاحقا منجزا من الناحية الفنية، وقتها تطرح في نفسك عدة أسئلة قبل استقبال العمل بشكله النهائي، منها سؤالٌ مهمٌّ جدا عن القراءة الفنية للعمل وشخوصه وعوالمها الداخلية، خاصة إن كنت معجبا بالغنى الدرامي لهذه الشخصيات المتنوعة والتي تشاركك همّا مشتركا كإنسان سوريّ أتلفت روحه الحرب، وسرقت أحلامه وأحبابه.
تحوير في النص
هنالك مسافة أمان بينك وبين الشخصيات، إمَّا أن تأخذها إلى مكـان أجمل وإما أن تبقيها على حالها وتدعها تمسك بيـدك لتـأخذك بطـريقة واقعية سحرية إلى المكـان الـذي تشتهيه هي، ولذلك تسترعي انتباهك أحاديث وآراء المتابعين والمهتمين بقيمة النص ومستوى الإخـراج لأي عمل، وتلمس هنا أو هناك ظلما فنيا ربما أصاب الورق الذي قرأته وسحرك في لحظة ما.
لا أعرف ما الذي دفع القائمين على تنفيذ دراما “مسافة أمان” إلى القيام باجتهادات لم تكن في صالح العمل، منها ما يتعلَّق بقصة سلام وطلب جهة منها أن تقوم بوضع حقيبة متفجرات في بناء الأطباء المقيمين في المستشفى كانتقام يريده أهالي ضحايا تجار الأعضاء البشرية.
كيف يمكن لهذه الشخصية كما جاء في العرض أن تخبر الجهات المسؤولة عن هذا الأمر لتخرج بعد ليلة وكأنّ شيئا لم يكن، وتعود لممارسة حياتها المهنية بشكل عادي؟ مع أن النص أظهر إخفاء سلام لهذا الأمر، ولم تقم بالتبليغ عنه، ليجعل شخصية سلام في ظروف ضاغطة أكثر، وأفقد هذا التحوير الخط الدرامي إيقاعه ربما.
انطلاقا أيضا من البناء الدرامي لشخصية الطفل “كنان” الذي يعيش في سيارة مركونة بعيدا وحيدا مجردا من محيطه العائلي والاجتماعي، ليلتقطه مراد ويساعده من خلال تعليمه في منزله وتعويضه عن تسربه من المدرسة التي يجب أن يتواجد فيها في مرحلته العمرية الحساسة هذه، وهنا يقع كنان في حبٍّ بريء لـ“نور” يصل فيه إلى إهدائها عقدا يعود لوالدته المتوفية.
قد يقول لك أحدهم إنَّ هذا الفعل مبالغ فيه ولا يحصل في حياتنا، ولكن سحرية الواقع تدفعنا إلى استحضار لحظات طفولتنا حين كنَّا نستكشف مشاعرنا جراء إحساسنا بشعور حب أو إعجاب اتجاه نساء يكبرننا عمرا، فلكل مراهق صغير “مالينا” الخاصة به، وتمنيت لو خرج هذا الحدث ليؤكِّد على هذه المقولة.
تمنيت أيضا أن أرى العلاقة التي جمعت نور ويوسف علاقة حب دافعها الحاجة، الحاجة الإنسانية لامرأة تخرج من أزمة عاطفية سببت لها أذية على جميع المستويات، مع شاب يبحث عن الأمان والسكينة التي وجدها في نور وأبيها. باختصار هي علاقة حاجة ومصلحة إنسانية، وهو نوع من أنواع العلاقات العاطفية التي لا تقل أهمية عن الحب بمفهومه الكلاسيكي.
اعتمد السيناريو في بنيته الحكائية ايضا على تقنية الراوي على أن تروي كل شخصية شيئا من عوالمها الداخلية، وكان من الأفضل في مكانٍ ما ألا يتوحَّد صوت الراوي، وأن يقوم كل ممثل بتسجيل صوته لإعطاء المتلقي صورة أشمل عن العوالم الداخلية للشخصية التي تماهت مع الممثل ولتجنُّب الوقوع في “المونوتون”.
التقاء مصائر
اعتمدت الحبكة في النص في حلقاته الخمس الأخيرة على التقاء شخوص العمل بطريقة مميزة، ولكن القائمين عليه لم يذهبوا بالمغامرة إلى الأقصى وأذابوا جزءا كبيرا من الحبكة والصنعة في التقاء الأقدار والتي كانت مقصودة منذ البداية، وأبقوا على مسافة أمان مفترضة بينهم وبين النص بطريقة واقعية بحتة سرقت شيئا من السحر الذي كنت ستعيشه وتلمسه إن قرأت صفحات العمل.
والواضح أن التعديل سيطال النهاية بشكل واضح، حيث أن النهاية في السيناريو المتسقة مع إيقاع اجتماعي واقعي إنساني بمصائر شخصياتها لا تحتمل بعض المشاهد التي ظهرت في التتر، مع التنويه إلى أن بعض التعديلات التقطت روح النص وغازلته بطريقة مناسبة.
حافظ العمل على لحظات الذروات الدرامية وامتلك لغة بصرية جميلة واختيارا للممثلين جاء موفقا في غالبيته، وهي أمورٌ تُحسب للقائمين عليه، وأعتقد أنَّه سينال حصته التي يستحقها من المشاهدة والإنصاف بعد الموسم الرمضاني الذي جاء متنوعا هذا العام، ولأنه عملٌ يقدِّم همومنا وأحلامنا وأوجاعنا وعلاقاتنا الإنسانية بطريقة مختلفة فرضتها ظروف الحرب البشعة التي عايشناها على مدى سنين طويلة.