مسلسل "راجعين يا هوى" يستدعي الروح الدرامية لأسامة أنور عكاشة

بعد نحو عقدين من عرض المسلسل الإذاعي “راجعين يا هوى”، أعاد المخرج الشاب محمد سلامة تقديم رائعة الكاتب والمؤلف المصري الراحل أسامة أنور عكاشة في شكل مسلسل تلفزيوني، استطاع من خلاله أن يحيي ذكرى أبي الدراما المصرية وينفث عبق روحه الفنية وتفاصيلها في كل مكونات العمل، بدءا من محافظته على الخط الدرامي واختياره الدقيق لطاقم الممثلين وحتى الديكور العام.
القاهرة - يغوص المسلسل المصري “راجعين يا هوى” الذي يعرض حاليا على منصة “واتش ات” وتم عرضه لأول مرة في رمضان الماضي في كثير من تفاصيل التحولات الإنسانية التي تمر بها شخصياته، ومع أن لكل منهم قصة غير أن الرابط بينهم هو مرورهم بظروف تفضي بهم إلى تقلّب من السهولة فهم أبعاده.
أعاد العمل جانبا من روائع الراحل أسامة أنور عكاشة أو أبو الدراما المصرية كما يحلو للبعض وصفه، حيث ألفه كحلقات بثت على الراديو عام 2004، وجرى تجهيز سيناريو وحوار بمعرفة الكاتب محمد سليمان عبدالمالك لتكون متناسقة وجاهزة للعرض دراميا في ثلاثين حلقة، مع تعديلات تتناسب مع الطابع التلفزيوني.
لم يقترب عبدالمالك من جوهر الفكرة والمحتوى الذي قام عليه العمل عندما صاغه عكاشة لأول مرة، واقترب السيناريست من التفاصيل التي تتحكم في المضمون الدرامي ليتواءم مع التطورات في الوقت الراهن، وما يحويه من متغيرات تكنولوجية وتطورات اجتماعية.
كان من المهم عدم الوقوف عند مرحلة أسامة أنور عكاشة وإدخال ما يلزم على النص لتقريب الشخصيات إلى قلب وعقل المشاهد الذي قد يكون قطاع كبير سمع عنه أو شاهد له بعض الأعمال التي يعاد بثها من حين لآخر، وهي معادلة صعبة حاول منتجو العمل التغلّب عليها كي تبدو روح المؤلف الأصلي حاضرة.
معان رمزية نادرة
من يشاهد العمل بدون معرفة علاقته بالكاتب أسامة أنور عكاشة من السهل أن يجد بصماته فيه من خلال التحولات الاجتماعية التي يرصدها، والصراعات الطبقية المحتدمة والخلافات الأسرية التي تؤدي إلى العنف، وعبق القاهرة التاريخية الذي يفوح منه، وهي خصال مهمّة ميّزت عكاشة الذي رحل في مايو 2010.
أجاد الفنان خالد النبوي دور البطل في المسلسل الذي جاء ليسترد ميراثه من أبناء شقيقيه ليجد نفسه غارقا في مشاكلهم المتشابكة، وبدلا من الحصول على حقوقه المالية من أبناء أسرة "أبوالهنا" ينغمس في تفكيك الكثير من الأزمات التي يمرون بها.
◙ مسلسل "راجعين يا هوى" يكشف عن خطورة المشاكل الناجمة عن عدم العدالة في توزيع الميراث
وكشف مسلسل “راجعين يا هوى” عن خطورة المشاكل الناجمة عن عدم العدالة في توزيع الميراث، فقد أدى طمع شقيقي بليغ الراحلين إلى انتقاله أيضا إلى بعض أبنائهما، حيث مارسوا الغبن نفسه الذي ورثوه عن والديهما مع عمهما حتى أصبح زاهدا في الثروة الكبيرة ومستعدا لمواجهة أزماته المالية بمفرده.
وأفضى تغليب الروابط الاجتماعية على المادية إلى توصيل رسالة بدت أحيانا خطابية، لا تتواءم مع الصورة التي يعيشها كثيرون في زمن مليء بالمصاعب الاقتصادية.
قد تكون المعاني الرمزية المقصودة غطت على فكرة إخضاع المسألة إلى تقييم المنطق واللامنطق الذي يحكم هذه الأمور، فمن مهام العمل الفني أن يسهم في زيادة الوعي وتقديم ما يجب إنسانيا وليس بالضرورة الالتزام حرفيا بما هو كائن في الواقع.
وأدى النبوي دور “بليغ أبوالهنا” بطريقة سلسلة جمعت بين مجموعة من المتناقضات، من نوعية الطيبة والشر، المصلح الاجتماعي والمتمرد على العادات والتقاليد، الدونجوان والزاهد في النساء، ومنحه تمكنه من الانتقال بين هذه الصفات بمرونة قدرة على إجادة تجسيد شخصية بليغ غير العابئ بالدنيا وما فيها، أو بيبو وهو الاسم الذي أطلقه عليه طارق وولاء، وهما من أبناء شقيقيه المقربين له وتمردا على والدتيهما الرافضتين لوجوده بينهما وحرمانه من استرجاع حقوقه المادية، وهو الخيط الذي ربط بين صراع الخير والشر في العائلة الكبيرة.
توظيف فني واسع
استطاع المخرج الشاب محمد سلامة الاستفادة من الطاقم الفني الكبير الذي شارك في العمل، وقام بتوظيف كل فنان وفنانة بالطريقة المناسبة، واستخرج منه/ منها أفضل ما يملكه من طاقة فنية، ويبدو أنه تفاهم مع السيناريست محمد سليمان عبدالمالك في عملية رسم الشخصيات على مقاس صاحب أو صاحبة الدور في مرحلة الإعداد.
ولعبت الفنانة اللبنانية نور دور "ماجي" الطبيبة النفسية التي لديها عقدة من اسمها الحقيقي "مجيدة"، وأسهمت تركيبتها النفسية المضطربة في عزوفها عن الزواج، لكن جمعتها الصدفة مع بليغ أبوالهنا فغيّر حياتها كما غيرت حياته، وصولا إلى مرحلة الارتباط العاطفي بعد فترة طويلة من الإضراب عن الزواج، ولكل منهما قصة مختلفة جعلت لكل منهما مبرراته الخاصة للحياة بعيدا عن مؤسسة الزواج.
المخرج الشاب محمد سلامة استطاع الاستفادة من الطاقم الفني الذي شارك في المسلسل وقام بتوظيف كل فنان وفنانة بالطريقة المناسبة
وبرعت الفنانة هنا شيحة في دور المغرمة ببليغ الذي لفظها قبيل الارتباط بها رسميا، ودفعها للزواج من شخص آخر ثم الطلاق منه ومحاولة العودة إلى بليغ والتعلق بهذا الأمل المفقود، لأنه لا يبادلها الغرام نفسه ويتعامل معها على أنها عصبية وفاقدة للقدرة على التحكم في سلوكها وهو الطائر الطليق الذي يعيش بلا قيود، ونجحت شيحة في تجسيد لحظات الصعود ومشاهد قيامها بتصرفات عنيفة ولا منطقية مع من حولها.
وكان الفنان أحمد بدير قديرا بما يكفي في دور عم بليغ أبوالهنا، أستاذ الفلسفة الذي يتعامل مع الحياة ببساطة ووفقا لقناعاته الراسخة التي جعلته زاهدا في الزواج، مكرسا حياته للعلم، وهو المتيم بالإقامة في أحد بيوت القاهرة القديمة التي تعيد عبق التاريخ، ومن خلال المشاهد التي صورت في هذا البيت ظهرت روح أسامة أنور عكاشة الحقيقية التي تجلت من قبل في أعمال مثل "ليالي الحلمية" و"أرابيسك" و"أبوالعلا البشري".
عقدة أبناء الفنانين
قدم العمل نور خالد النبوي في دور طارق أبوالهنا الشاب المشاغب الطموح، وربما يكون نور ظُلم لأنه شارك والده هذا العمل واحتل مساحة كبيرة منه، فبدا كأن حصل عليه بواسطة والده، وفشلت كل محاولات الأب والابن في تأكيد اختياره من جانب المخرج محمد سلامة لموهبته وليس لأنه نور خالد النبوي، ما أوقع عليه ظلما بيّنا، لأنه أدى دوره بصورة جيدة، لكن لعنة الشهرة التي يحظى بها والده ظلت تطارده.
هذه لعنة لا يختص بها نور وحده، فكل أبناء الفنانين والفنانات في مصر تقريبا يتعرضون لها في بداية حياتهم العملية إلى أن يثبتوا جدارتهم ويتأكد الجمهور من موهبتهم المستقلة، ويحتاج كل منهم إلى المزيد من الوقت كي يقتنع الجمهور به، ويتأكد أن دخوله أو دخولها التمثيل عن جدارة واستحقاق وليس بالوراثة والمجاملة.
◙ "راجعين يا هوى" ضمّ مجموعة من الأسماء المخضرمة أضفت زخما فريدا على العمل وأسهمت في تطويره
وضم "راجعين يا هوى"، والذي يشير اسمه إلى وجود قصص عديدة حواها حول الحب والرومانسية مجموعة من الأسماء المخضرمة أضفت زخما على أحداثه وطريقة تناولها، مثل وفاء عامر وأنوشكا وهناء الشوربجي وتميم عبده، وكذلك أسماء شابة مثل سلمى أبوضيف وآية سماحة وشريف حافظ وإسلام إبراهيم وإسلام جمال وهلا السعيد.
وجاءت القفزة الفنية التي يدور حولها التباين بين النقاد في تجاهل بليغ لأسباب عودته إلى القاهرة لسداد دين كبير عليه لأحد الأشخاص العرب المقيمين في بودابست واسمه أبوعدنان ويقوم بدوره الفنان الأردني منذر رياحنة، حيث انخرط في هموم العائلة التي وجد بها شبابا وفتيات يقبلون على الحياة بشغف وحب، وآخرين غارقين في الفساد وتملأ الكراهية قلوبهم فولدت صراعا بين أسرتي شقيقيه وزوجتيهما.
ورأى بعض النقاد أن التحول الاجتماعي الكبير أشبه بقفزة في الهواء الطلق، حيث انتصر الخير على الشر وساد العدل والحق، وهي صورة اجتماعية نمطية ظهرت في كثير من الأعمال الدرامية، كان يمكن تفهمها لو أن البعض تحول فعلا والآخر صمد وتمسك بموقفه حتى النهاية.