مسلسل "الدامة" يثير حفيظة ضمير جمعي في الجزائر يخشى مواجهة الحقيقة الاجتماعية

رغم أنه يتطرق للعديد من المشكلات الراهنة والكبرى في المجتمع الجزائري إلا أن مسلسل “الدامة” أثار غضب الكثير من الجزائريين من بينهم نواب في البرلمان ودوائر رسمية، فبدا أغلبهم كمن يخشى مواجهة الحقيقة التي تنذر بتفكك المجتمع وانتشار العديد من الظواهر الخطرة بين مكوناته والتي ستؤثر في مستقبل البلاد ومستقبل شبابها بصفته عماد المستقبل.
الجزائر- شنت دوائر رسمية ونخب افتراضية هجوما لاذعا على مسلسل “الدامة” الذي يبثه التلفزيون الحكومي خلال شهر رمضان، وذلك بدعوى عدم مراعاته للقيم الوطنية والاجتماعية، حيث أخذت مشاهد له صورت في فضاءات تحمل شعارات سياسية معادية كحركة “ماك” الانفصالية، و”شلوم” اليهودية، فضلا عن ترويجه للعنف والمخدرات واستغلال الأطفال، كمبرر للمطالبة بوقف بثه، رغم أن ذلك لا جدوى له في القضاء على الظاهرة أو التستر على الشعارات المناوئة، وإنما هو تستر على الحقيقة وهروب إلى الأمام.
وفتح الهجوم الذي شنه النائب البرلماني عبدالله عماري على مسلسل “الدامة”، الذي يبثه التلفزيون الحكومي خلال شهر رمضان الجاري، شهية نخب ومدونين يحملون مرجعية محافظة معروفين بولائهم للسلطة، لخوض حملة شرسة ضد العمل الدرامي الذي أثار جدلا كبيرا في الشارع الجزائري، بدعوى الإساءة للقيم الوطنية والاجتماعية والروحية، وعدم احترام الذوق العام للمجتمع الجزائري.
ومسلسل “الدامة” الذي أخرجه يحيى مزاحم، وكتبت نصه سارة برتيمة، حقق منذ أيامه الأولى نسب مشاهدة عالية، وتصدر الأعمال الدرامية التي تعرضها مختلف القنوات الحكومية والخاصة، حيث يتناول بشكل صريح وجريء تنامي ظاهرة العنف واستهلاك المخدرات واستغلال الطفولة من خلال الاتجار بالأطفال.
كما حمل منسوبا غير مسبوق من الجرأة في طرح تابوهات العنف والمخدرات والمشاكل الاجتماعية في الضواحي الشعبية، وكأن فريق الإخراج أراد مواجهة المجتمع بالحقيقة التي يراد التستر عليها، رغم أنها تملأ الفضاءات الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي، وهو ربما ما لم تتحمله أوساط محافظة لا تريد كشف الحقيقة والذهاب إلى مواجهتها بدل التستر عليها تحت عناوين القيم والثوابت الدينية والاجتماعية.
و”الدامة”، هو اسم للعبة شعبية تقليدية شبيهة بلعبة الشطرنج، تحتاج إلى حد معين من الذكاء والدهاء والمناورة لكسب الخصم، وربما هي الخصائص التي أرادت كاتبة السيناريو استلهامها من اللعبة الشعبية، لإسقاطها على التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الجزائري، حيث بات العنف واستهلاك المخدرات أو الاتجار بها معادلة أساسية في إدارة العلاقات الاجتماعية داخل الحواضر والضواحي المهمشة والفقيرة.
وظهر النائب البرلماني عبدالله عماري في الجلسة البرلمانية لتوجيه أسئلة شفهية لأعضاء من الحكومة، متحمسا لتوجيه النقد والعتاب لوزير الاتصال محمد بوسليماني، ومن ورائه سلطة ضبط النشاط السمعي البصري، على اعتباره المسؤول الأول عن القطاع.
وذكر المتحدث في مداخلته بأن “ما تبثه بعض القنوات من مسلسلات معروضة تشجع الرذيلة وتعاطي المخدرات والمهلوسات، رغم أن البرلمان ناقش مؤخرا ملف المؤثرات العقلية التي اجتاحت الوطن، وضربت الشباب”.
وعبر عن استغرابه بالقول “شهر رمضان هو شهر اللمة، وأفلام الفكاهة تحولت إلى تهريج، وأصبح أفراد الأسرة مجتمعين يشاهدون مسلسلا جزائريا، وكأنهم في سوق أسبوعي”.
وأضاف “الجميع استبشر خيرا في رمضان الماضي بعد توقيف مسلسل بث لقطات خادشة للحياء، إلا أن ريمة عادت إلى عادتها القديمة، وبدل أن تتعظ تلك القنوات في اختيار ما يبث، إلا أنه طغت عليها برامج تافهة ورديئة تؤثر حتما على الأخلاق”.
واستدل المتحدث بتركيز أعمال درامية على ما أسماه بـ”الحض على التسرب المدرسي، والاستهزاء بالأستاذ والمربي، والطعن في الحجاب”، معتبرا مسلسل “الدامة” تعمد المبالغة الكبيرة في الظاهرة، فكل أبطاله يروّجون المخدرات والمهلوسات، بمن فيهم الأطفال، وذلك جرم كبير في حق الجزائريين.
ووجه النائب انتقادات شديدة لسلطة ضبط النشاط السمعي البصري، بدعوى عدم ممارسة دورها الأساسي في مراقبة الأعمال المعروضة على الجمهور، وألمح إلى إهمال ممزوج بتواطؤ، سمح بتمرير مشاهد صورت في فضاء يحمل شعارات سياسية معادية للدولة، في إشارة لشعار “ماك” بالحروف اللاتينية الذي كان مدوّنا في جدار شكل خلفية لإحدى اللقطات، كما أظهرت صورة أخرى لكلمة “شلوم”، لفتت انتباه المتابعين وأثارت التساؤلات لدى الجمهور الغاضب.
وتساءل النائب المنتمي إلى مؤسسة رسمية وسيادية، لم تتحرك بالشكل اللازم إلى حد الآن لبحث مسألة تصاعد وتيرة العنف والمخدرات خاصة خلال السنوات الأخيرة، عن تساهل الهيئة الرقابية في مرور شعارات سياسية معادية للدولة، خاصة وأن التنظيم المذكور معروف بعقيدته الانفصالية، وهو مصنف منذ العام 2021 ضمن الكيانات الإرهابية التي تشن عليها المصالح المختصة حربا شعواء.
وتظهر بيانات رسمية ووقائع موثقة تناميا مطردا للعنف والمخدرات في المجتمع الجزائري، ولم تسلم منها حتى الفضاءات المدرسية والأماكن العمومية، وصار الأطفال محل استغلال من طرف عصابات فرضت منطقها ورعبها، وهو الأمر الذي عالجه المسلسل بشكل صريح ومباشر، مع منسوب عال من الجرأة في نقل السلوك والمفردات المتداولة في مجتمع المخدرات.
وكانت حوادث طعن تلميذ لأستاذة له بخنجر في ظهرها بإحدى مدارس محافظة باتنة بشرق البلاد، والهجوم الذي شنته مجموعة من شباب حي سيدي سالم بمدينة عنابة على مركز الأمن المحلي نقلة نوعية أثارت لغطا كبيرا وأطلقت أجراس الإنذار، إلا أن المعالجة الدرامية للظاهرة من طرف المخرج يحي مزاحم في مسلسل “الدامة” لقيت مقاومة وانتقادا شديدين يقتربان من “النفاق الاجتماعي” وعدم القدرة على مواجهة الحقيقة.
المسلسل يبحث في التحولات التي يشهدها المجتمع، حيث بات العنف واستهلاك المخدرات أو الاتجار بها معادلة أساسية
وينتظر أن تعلن سلطة ضبط النشاط السمعي البصري عن نتائج التحقيق الذي فتحته مع فريق الإنتاج وإدارة القناة التلفزيونية الحكومية، بعدما طلبت توضيحات حول العمل الدرامي المعروض، وسط تساؤلات حول مدى مهنية الهيئة في التعاطي مع المسلسل أو الخضوع لإرادة النخب الغاضبة في مؤسسات رسمية وفي شبكات التواصل الاجتماعي.
وكان أستاذ علم الاجتماع ناصر جابي أول المهنئين لمخرج المسلسل وفريق الإنتاج على العمل، قياسا بما تضمنه من “معالجة قوية وصريحة لتنامي ظاهرة العنف والمخدرات”، الأمر الذي يترجم الرؤية السوسيولوجية والتحولات الاجتماعية العميقة التي تجري وسط صمت جبان.
وأبدى وزير الاتصال محمد بوسليماني تأييدا ضمنيا لمحتوى مداخلة النائب البرلماني، واكتفى بالتذكير بالإجراءات الروتينية التي تقوم بها مصالحه في مراقبة المواسم الإنتاجية ومتابعتها، لكنه لم يدافع لا عن العمل الذي أنتجه التلفزيون الحكومي وموّله، ولا عن الرؤية السوسيولوجية للمسلسل في معالجته لأخطر الظواهر التي تهدد كيان المجتمع ومستقبل الأجيال.