مسلسل "إيجار قديم" ينقل جدل المجتمع والسياسة إلى الدراما

استبشر العديد من المصريين لسماعهم بدء عرض مسلسل "إيجار قديم" ظنا منهم أنه قد يطرح حلولا ويخلق نقاشات شعبية جديدة حول مسألة الإيجارات القديمة التي تمثل منذ عقود معضلة قانونية واجتماعية، لكن المسلسل سرعان ما ابتعد عن موضوعه الرئيسي لينشغل بصراعات ثانوية، أفقدته أهميته وهمشت القضية الكبرى.
القاهرة - بدأت الدراما المصرية تقترب كثيرا خلال الفترة الماضية من بعض القضايا الواقعية التي تشغل بال شرائح مختلفة من المجتمع، وتحاول تقديم مقاربات فنية لمحاكاة عدد منها، نجحت أو أخفقت ليس مهما، لأن دور الفن يكمن في المعالجة الصادقة والأمينة وبطريقة صحيحة من دون انحياز إلى أطراف معينة في الموضوعات التي تحاط دائما بالجدل وتلفها إشكاليات اجتماعية وسياسية مختلفة.
قد يكون مسلسل "إيجار قديم" المعروض حاليا على قناة "أون" المصرية نكأ جرحا غائرا عندما واتت منتجيه جرأة تناول قضية تخص العلاقة بين المالك والمستأجرين في المباني القديمة التي مضى على مناقشتها نحو نصف قرن ولم تفلح الحلول التشريعية التي تطرقت إليها في تقديم قانون يحكم علاقة متنافرة على الدوام، فالمالك والورثة والمستأجر وورثته أيضا كلاهما على طرفي نقيض، والمعركة بين الطرفين تندرج بلغة السياسة ضمن المعارك الصفرية، فمكاسب طرف تمثل خسارة للطرف الآخر.
يحسب للمؤلف عمرو الدالي والمخرج طارق رفعت ومعهما فنانون مثل شريف منير وصلاح عبدالله والأردنية فيدرا ورحمة حسن وميمي جمال ومحمد الشرنوبي وحازم سمير وهشام إسماعيل أنهم طرقوا بقوة على ملف حساس يشغل بال شريحة كبيرة في المجتمع، ويحظى باهتمام واسع من جانب مشرّعين ومسؤولين وقانونيين وسياسيين ومواطنين على صلة به، تضررا أو نفعا، وكل المناقشات التي جرت لم يتولد عنها حل نهائي لقضية العلاقة الأزلية بين المالك والمستأجر.
مسكنات بلا حلول
استخدم المسلسل عنوان "إيجار قديم" للإيحاء بأنه يتناول قانون العلاقة بين المالك والمستأجر سيء السمعة في مصر، وأنه يمكن أن يعرض حلا مناسبا لها بعد أن طال أمد المسكنات التي قدمت في الفترة الماضية، وبقدر ما قدمت حلولا جيدة إلا أنها أفرزت مشاكل جانبية كبيرة، كان من المتوقع أن يتعرض لها العمل الدرامي.
وتعامل المسلسل مع قضية حيوية بسطحية فنية شديدة لأنه اقتصر على مالك عقار قديم، وهو رمزي وقام بدوره شريف منير، لا يملك من أمره شيئا، حيث اضطر إلى ترك سكنه السابق لأسباب تتعلق بإزالته والعيش على سطح منزل ورثه عن أسرته، حيث كل وحداته مشغولة ومؤجرة بثمن زهيد.
دخل المالك رمزي مع عدد من سكان البناية في مشاكل عديدة، وراوده أمل في طرد سكانها أو بعضهم، وإلى هنا كانت القصة طبيعية، غير أن المؤلف ابتعد عن مناقشة الأمر من وجوهه المختلفة ومر عليه سريعا مختزلا القصة في الأزمة بين رمزي وطارق وقام بدوره الشاب محمد الشرنوبي، حيث ورث الأخير الشقة عن والده (حسين) الذي توفي ولم يكن مقيما معه في الشهرين الأخيرين، بينما كان رمزي هو الذي يقيم خلالهما مع حسين وقام بدوره الفنان صلاح عبدالله.
تحولت الحكاية الرئيسية في المسلسل إلى فرعية لكثافة الأحداث التي تناولها العمل، من العلاقة بين أب وابنه وما يشوبها من سيطرة من جانب الأب وعقوق من الابن، حيث يريد الأول التدخل في حياة الثاني الذي يسعى إلى تكريس استقلاليته ولو كانت عن طريق اختيارات خاطئة وهو الخيط الذي انقطع بوفاة الأب واستبدل بنزاع حول الشقة.
عرج المسلسل على مربع العلاقة بين الابن وخطيبته وتصويرها في شكل متسلطة ومتحكمة في طارق، ومنها تفرعت جملة من الأحداث الجانبية عن الغيرة العاطفية والتطلعات المادية والعلاقات الاجتماعية، وتشعبت المشاكل ذات الأبعاد الممتدة في جميع الأسر التي تقطن البناية القديمة وتقع في أحد أرقى الأحياء بالقاهرة.
من قصة الزوجة الطبيبة المطلقة (ليلى) التي تبحث عن حقوق ابنتها من زوجها الأناني إلى الطبيبة نفسها وقامت بدورها إلهام وجدي ويغرم بها أحد المرضى، وتبدي إعجابا بشخص آخر وتتداخل مكونات العلاقة الإنسانية مع نظيرتها العاطفية، ومنح المخرج مساحة كبيرة للدور الذي لعبته الفنانة إلهام وجدي.
على الرغم من أن المشاهدين لم يروها من قبل على الشاشة أو على الأقل في دور يحتل كل هذه المساحة، إلا أنها تحولت إلى قاسم مشترك في الكثير من المشاهد داخل البناية وفي النادي ومدرسة طفلها، بجانب العيادة الخاصة بها، ما أثار شكوكا حولها لأن المقومات الفنية التي تملكها وسابق أعمالها لا يؤهلانها لذلك، ما جعلها واحدة من نقاط الضعف في العمل لأن مقومات شخصية الطبيبة الودودة المنفتحة والمرأة المقهورة تحتاج إلى مواصفات خاصة لم تظهرها الفنانة في هذا الدور.
كان الأداء العام لعدد كبير من الممثلين يغلب عليه الافتعال، ما أفقد فنانا كبيرا في حجم صلاح عبدالله جزءا من بريقه المعتاد، ففي الوقت الذي بلغ فيه ذروته في الأحداث توفي لأن المؤلف نسج قصته على فكرة النزاع القضائي بين ابنه وصديقه صاحب العقار (رمزي)، وهو أمر يحتمل تأويلات فنية عدة.
خطوط درامية متعرجة
كانت مساحة الدور الذي قام به حسين تتطلب مواصلته باعتباره العنصر المشترك مع غالبية الشخصيات، بينما يقول رأي آخر إن الاختفاء جاء لضرورة فنية اقتضت العودة إلى محور العمل الدرامي الأول، وهي أزمة الإيجار القديم، والعودة إلى محورها الرئيسي الخاص بالنزاع التقليدي بين المالك والمستأجر.
يشعر المشاهد في بعض حلقات المسلسل كأن الخيوط تهرب منه أو تتسلل من بين أنامل منتجي العمل، ما أفقده القدرة على الصمود ومتابعة الأحداث لأنها تدخل وتخرج في حكايات بلا أفق يحمل إثارة فنية أو نسقا دراميا يؤكد أن هناك هدفا لبعض اللقطات التي تحشر أحيانا، الأمر الذي يؤخذ على المخرج طارق رفعت، والذي توافرت له عناصر جيدة من فنانين وفنانات تاهت وسط زحام الأحداث وتفرعها.
◙ مؤلف المسلسل عمرو الدالي حاول الهروب من تناول القضية بالعمق اللازم إلى الاستغراق في قضايا هامشية
من المفيد أن تكون الدراما انعكاسا للواقع الحقيقي، لكن إذا لم تستطع معالجته بصورة جذابة تتوافر لها المكونات الجمالية التي يستوجبها الفن فلا داعي للاقتراب منها، لأن التشويه الذي ألحقه العمل بقضية تحظى باهتمام كبير من الناس زادها تعقيدا، فقد حاول المؤلف عمرو الدالي الهروب من تناول القضية بالعمق اللازم إلى الاستغراق في قضايا هامشية لتبرير أسباب عدم تقديم توصيف دقيق لها.
لم يكن العنوان (إيجار قديم) كافيا للتعبير عن طبيعة المسلسل لأنه اختزل قضية شائكة في مجموعة من المشاهد أقرب إلى الفانتازيا أفقدته المحتوى العميق المنتظر، فالمحامي الذي جسده الفنان هشام إسماعيل به الكثير من الكوميديا وأشكال التحايل المتعارف عليها، وكان يمكن توظيفهما بصورة أشد عمقا، وقد يكون الدور جاء لتخفيف جرعة الكآبة، لكنه انقلب إلى سخرية ميلودرامية لقضية جادة.
يحتاج تناول هذا النوع من القضايا إلى إلمام كبير بجوانبه والقبض على أطرافه المتباينة لأن التشخيص ما لم يكن كافيا لتوصيل رؤية متكاملة حول القضية التي يتناولها يمكن أن يضر، فعندما يكون التشويش مسيطرا يفقد العمل رونقه الفني، وتخسر القضية زخمها المطلوب لإيجاد علاج ناجح لها بعد تشتت الجهود المبذولة منذ فترة.