مسرحية لبنانية تستعيد قصصا من موجات الهجرة نحو الولايات المتحدة

في القرن التاسع عشر فرّ الكثيرون نحو الولايات المتحدة بحثا عن حياة أفضل، فصارت قصص المهاجرين والمهاجرات مادة روائية شيّقة ثم أعمالا سينمائية ومسرحية، لكن موجات الهجرة لم تنته بل ازدادت، وصار الحديث عن الماضي كمثل الحديث عن الحاضر وربما المستقبل أيضا، فلا شيء تغيّر حتى المعاناة والصعوبات لازالت هي نفسها.
نيويورك - شارك طلبة الجامعة اللبنانية – الأميركية في “مهرجان الأصوات” الذي تنظمه كلية الفنون في جامعة نيويورك، بمسرحية تعبّر عن واقعهم الشبيه بدول عربية كثيرة ومنها جارتهم سوريا، والعرض مستوحى من قصص واقعية لموجات الهجرة اللبنانية والسورية نحو الولايات المتحدة، المدفوعة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والحروب.
وشارك الطلبة في أنشطة المهرجان حيث قدمت طالبات عرضا مسرحيا تحت عنوان “أميركا” من إعداد لينا أبيض أستاذة المسرح في الكلية بمساعدة خمس طالبات.
والمهرجان المسرحي من تنظيم أستاذة الفنون في جامعة نيويورك كاثرين كوراي، وتندرج تحت أنشطته أعمال كتاب مسرحيين أميركيين من أصل عربي وكذلك كتاب عرب وجميع المشاركين هم طلاب جامعيون.
وتستعيد مسرحية “أميركا” قصة من مسلسل قصص موجات الهجرة اللبنانية – السورية إلى الولايات المتحدة، حيث تتناول رحلة ثلاث نساء لبنانيات وسوريات هاجرن أواخر القرن التاسع عشر، في محاولة للإضاءة على هؤلاء النسوة المجهولات اللواتي ناضلن من أجل بناء حياة أفضل لهن ولأسرهن. حياة تمنحهن الحق في الحب والتعبير.
لينا الأبيض: نحن نبحث في مفهوم الجنة المنشودة لدى المهاجرين
وفي أواخر القرن التاسع عشر، قرر الناس في أجزاء كثيرة من العالم مغادرة منازلهم والهجرة إلى الولايات المتحدة. وفي محاولة للهروب من قلة المحاصيل ونقص الأراضي والوظائف وارتفاع الضرائب والمجاعة اتجه الكثيرون نحو الولايات المتحدة لأنه كان يُنظر إليها على أنها أرض الفرص الاقتصادية.
ودفع المهاجرون أحيانًا ثمن النقل العابر للمحيطات عبر خدمتهم عمالًا بعقود طويلة الأجل بعد وصولهم إلى العالم الجديد.
ولم تنحصر الهجرة في الموجات التي شهدها القرن التاسع عشر فنحن وبعد قرنين من الزمن لا زلنا نشاهد بشكل يومي ولمرات متكررة أحيانا في اليوم الواحد تقارير مصورة وأخبارا عن عمليات هجرة من لبنان وسوريا نحو “الحياة الأفضل” التي لا تقتصر فقط على الولايات المتحدة وإنما في أيّ مكان من العالم يكون أكثر أمانا واستقرارا وحرية.
ويستحضر العمل المسرحي ذكرى النسوة المناضلات في المهجر من أجل مستقبل أفضل، وهو جزء من مسار سبق أن تعرضت له لينا أبيض في اقتباسها المسرحي خلال العام 2018 عن رواية “طيور أيلول” للكاتبة الشهيرة إميلي نصرالله والتي روت سيرة القرى اللبنانية مع الهجرة والأحلام بالغد الأفضل وبين التعلق بالأرض والوطن والحلم بتحقيق الثروة.
وفي الأصل تنتمي رواية “طيور أيلول” التي نشرت عام 1962 إلى الأدب الكلاسيكي وأبطالها قرويون من بلدة الكفير البعيدة في جنوب لبنان وتتناول قضايا الهجرة وقصص الحب المبتورة والكبت والتمييز الجنسي وأحلام الشباب صعبة التحقيق.
وكان من الصعب إعدادها ومسرحتها بلغة شباب اليوم وبمشاهد بسيطة خفيفة تبتعد كل البعد عن قساوة حكاياتها التي لا يزال يعاني منها اللبنانيون وإن بوجوه مختلفة. ولم يكن ذلك ممكنا إلا بمحاولة تخطي الزمن مسرحيا، وفي تجسيد المشهد الحسي والشاعري، وذلك بواسطة ديكور بسيط وأزياء وإكسسوارات تحيل إلى الحقبة الزمنية للعرض، بالإضافة إلى المؤثرات السمعية والبصرية المصاحبة للعرض.
ويبدو أن أبيض قررت في مسرحيتها الجديدة “أميركا” الانتقال إلى الولايات المتحدة بالذات واستعادة مشهدية النساء المهاجرات وما تعرضن له من مهانة وعذاب في سبيل تحقيق حلمهن بالثراء والحياة المستقرة ماديا، ولتقديم هذه المسرحية للمرة الأولى من “أرض الميعاد” وليس من الأراضي التي يسعى أبناؤها لهجرها.
في المسرحية، تخوض النساء رحلة من قراهن عبر ميناءي بيروت وطرابلس إلى أن يصلن إلى جزيرة إليس في نيويورك وهي المدخل الإلزامي لكل مهاجر نحو الولايات المتحدة.
وعن ذلك قالت أبيض “لم تكن هذه المحطات بسيطة أبدا، وكل واحدة منها كانت مؤلمة ومعقدة ومليئة بالمغامرات خصوصا الاختبار الكبير الذي يتمثّل في الفحص الطبي الإجباري للنساء في جزيرة إليس وبعد ذلك ربما يتم منحهن الدخول إلى ما يعتقد معظمهن أنه الجنة”.
وتضيف “السؤال الذي نطرحه هنا هو ما الجنة؟ فبمجرد وصولهن إلى الولايات المتحدة، عمل هؤلاء النساء في مختلف الأعمال لكن معظمهن ذهبن للتجوال لإعالة أسرهن الفقيرة من أجل بناء حياة جديدة في الأرض الجديدة”.
ولعبت الصداقة التي جمعت بين الأستاذتين كوراي وأبيض دورا في تعزيز التعاون بين كليتي المسرح في الجامعتين والانطلاق نحو المشاركة في “مهرجان الأصوات”، علما أنها المرة الأولى التي ينتقل فيها فريق من الطالبات اللبنانيات إلى نيويورك لتقديم عمل مسرحي، وإضافة إلى أدوارهن التمثيلية شاركت الطالبات في إعادة تشكيل المشاهد وكتابتها استنادا إلى الوثائق والقصص التي جمعها الباحثون حول الموجة الأولى من الهجرة.
وأوضحت أبيض أن “هذه القصص اعتمدت كأساس للارتجال الذي أدته الطالبات الممثلات اللواتي عملن مع المسرحي البروفيسور إدوارد زيتر على هذا الأمر في موازاة مساهمته في تطوير المسرحية”.
وقدمت الجامعة اللبنانية – الأميركية هذا العمل الفني الثقافي على أنه تحية إلى المسرحية الكاتبة عفيفة كرم، التي تعد من رائدات الرواية العربية وواحدة من أهم أدباء القرن التاسع عشر، والتي نددت مطلع القرن العشرين بزواج الأطفال والاغتصاب والعنف الأسري والنظام الأبوي في مقالاتها وكتبها.
وألفت كرم ثلاث روايات – الأولى في سن 23 – وتعتبر مؤلفاتها من أقدم الروايات العربية.
وقدمت المسرحية كتحية لنساء عربيات استطعن أن يحققن حياة أفضل لهن ولعائلاتهن في الولايات المتحدة، وهن المسرحية ماري عزيز الخوري التي تعرف بأنها مصممة مجوهرات مشهورة ورائدة أعمال، وكانت عضوا في مجلس الأمناء في متحف متروبوليتان للفنون. وأيضا حنة قصباني كوراني التي سافرت إلى شيكاغو كممثلة للمرأة السورية في المؤتمر العالمي للنساء الممثلات في العام 1894. وهناك، أصبحت كوراني صديقة مقربة لماي رايت سيوول، أحد رموز تحرير المرأة”.
المسرحية تتناول رحلة ثلاث نساء هاجرن أواخر القرن التاسع عشر في محاولة للإضاءة على هؤلاء النسوة المجهولات
ووصفت مساعدة نائب الرئيس للتطوير في المركز الأكاديمي في الجامعة اللبنانية – الأميركية في نيويورك نادية مكداشي عرض المسرحية لخمس مرات أمام جمهور أميركي بأنه “شكّل فرصة رائعة لطلابنا للتعلم من الأفضل والعمل على الإنتاج من السيناريو إلى الأداء”.
وقالت مكداشي “لقد كانت المسرحية مؤثرة نظرا إلى الأوضاع الصعبة التي يعاني منها لبنان والهجرة الكثيفة التي ترافق هذا الأمر”. وأضافت أن التعاون مع جامعة نيويورك “تجربة إيجابية أظهرت لهم أن هناك عالما مليئا بالأمل”.
واعتبر رئيس الجامعة اللبنانية – الأميركية ميشال معوض أن “التعاون مع جامعة نيويورك خير دليل على أهمية التواجد في مدينة نيويورك”.
وقال “في خضم هذه الأزمة التاريخية التي تعصف بلبنان، فإن الموهبة المطلقة والتفاني الذي أظهره طلابنا يلهمان حقا – وهو ما يدفعنا إلى المثابرة والتمسك بمعاييرنا التعليمية، أكثر من قبل”.
يذكر أن بعثة الجامعة اللبنانية عملت خلال ستة أسابيع من التحضيرات في نيويورك وبالتعاون مع خمسة طلاب من كلية الفنون في جامعة نيويورك على إنجاز كل التحضيرات اللازمة للمسرحية.
ويصف عوض الطالبات الممثلات في العرض، وهنّ ناري كوركجيان، آية ليل طربية، جنيفر يمين، دونا عطاالله، سالي جابر بأنه “أتاح لهن التفاعل مع الطلاب الأميركيين وأظهر لهن مدى أهمية ما يقمن به والمستوى المتقدم للجامعة اللبنانية – الأميركية في موازاة جامعة نيويورك رغم أن الطلاب الأميركيين لديهم الكثير من الإمكانات والقدرات إلا أن البعثة اللبنانية كانت ندّا لهم”.