"مسافة كافية" قصص تكشف ما يدور في أعماق البشر من اضطرابات خفية

قصص تتناول الواقع الاجتماعي وتهتم بالجانب الفلسفي الذي يكشف الهموم النفسية ويسائل الذات نشدانا للخلاص.
الأربعاء 2025/03/05
دخول إلى مناطق النفس المعتمة (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

عمان - يقدم الكاتب الأردني جعفر العقيلي في مجموعته القصصية “مسافة كافية”، نصوصا تتميز بسلاسة السرد وحيويته، وباللغة المؤثثة بالصور الفنية ذات الرموز والدلالات العميقة، مع انفتاحها على التأويل مبرزة جماليات الحدث ومفارقاته. وتبدو المفارقة السمة الأبرز التي تجمع هذه النصوص السردية متنوعة المضامين والطروحات، مركزة على إضاءة هواجس الإنسان ومخاوفه، وإعلاء قيم التحرر والاختلاف عن السائد.

تتضمن المجموعة خمس عشرة قصة، منها ما يقارب موضوعات تتعلق بالواقع الاجتماعي وإيقاع الحياة اليومية، ومنها ما يهتم بالجانب الفلسفي الذي يروم اكتشاف الهموم النفسية ومساءلة الذات في محاولة لنشدان الخلاص. تتنوع البنية الفنية في قصص المجموعة، الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون”، فهناك قصص ذات خط سردي متنام زمنيا ومكانيا، وهناك قصص ذات مقاطع تتنقل في الزمان والمكان وفق الحالة النفسية للشخصية القصصية، ومنها قصة “تعايش” التي تتكون من مقاطع عدة تكشف الحالة النفسية للشخصية واضطراباتها.

يقول بطل القصة “وأخيرا، أصبح لي بيت؛ أسكنه ويسكنني. بيت صغير، أنيق، يحتل نصف الطابق الثاني لبناية حديثة في حي ناشئ على أطراف المدينة. ورغم الجهد الذي أبذله وأنا أقطع المسافة الطويلة من أقرب موقف يصله الباص مشيا إلى بيتي، إلا أن سعادة كانت تجتاحني كلما صعدت الدرجات الست والعشرين، وهممت بإخراج السلسلة الطويلة التي يتدلى منها مفتاح الباب الخارجي بكبرياء من بين المفاتيح الأخرى.”

هذا البيت المستقر كما يظهر في القصة، سرعان ما يضيق بالبطل الذي يقرر أن يزرعه بساعات المنبه ويعيش مع أصوات رنينها، لكن ما يحدث في النهاية يكون أمرا صادما. “قفزت باتجاه المنبه الأقرب إلى سريري، وحاولت كتم أنفاسه، فلم أفلح. وكذا كانت الحال مع البقية في أرجاء البيت واحدا واحدا، فتيقنت أنها تتحداني. حتى صديقي -جرس الباب- تمرد علي، ورفض الاستجابة وأنا أتوسل إليه كي يصمت. عندها حملت ما تيسر من أغراضي في حقيبة وهرولت إلى الشارع معلنا هزيمتي، وها أنا ذا أكتب قصتي في المقهى، وقد قررت ألا أعود إلى بيت تسكنه كل تلك الأصوات.. بيت كان لي وحدي.”

◙ المفارقة تبدو السمة الأبرز التي تجمع هذه النصوص السردية متنوعة المضامين والطروحات مركزة على إضاءة هواجس الإنسان ومخاوفه
◙ المفارقة تبدو السمة الأبرز التي تجمع هذه النصوص السردية متنوعة المضامين والطروحات مركزة على إضاءة هواجس الإنسان ومخاوفه

لا تستمد قصص العقيلي عناصر الإثارة والتشويق من الغموض والتعقيد بل قوامها الإبداعي يتمثل في البساطة والاقتصاد اللغوي، ومن البداهات التي لا تتطلب التذكير بأن الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف هو من يعد رائدا للسرد الشفيف في كتابة القصة وبساطته في التعبير بمثابة توقيع في خطه الإبداعي، فالثيمات التي تنطلق منها قصصه تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكن في الحقيقة تضمر أبعادا متعددة، ويكسبها المنحى الإبداعي لونا جديدا، علاوة على نفس التوجه الذي تكرس منذ دوستويفسكي في الرواية وتشيخوف في القصة في كشف أعماق النفسيات، دون علاجها أو تغطية عيوبها وتجميل مآلاتها.

وتجلت في القصص ذات البعد النفسي أجواء الفانتازيا والغرائبية، المغلفة بسحر الكوميديا السوداء، كما في قصة “كمستير” القائمة على رمز تلك اللعبة المعروفة من الاختباء والظهور، لتصبح تلك اللعبة الخارجية لعبة داخلية بين الإنسان وذاته.

نقرأ ما يقوله بطل القصة “إنها رأسي. بدا الأمر غريبا إلى الحد الذي لا يمكنني فيه أن أستوعبه. صباح أمس رأيتها في مواجهتي، تطل علي من فضاء مرآة الحمام الدائرية ذات الإطار البلاستيكي المزركش. تمعنت فيها كعادتي، ورفعت حاجبي مرات عدة. شذبت ما شذ من شعرهما. سبلت جفني دكونة ما تلونهما. إنه الأرق. ابتسمت، فابتسمت. أعني ابتسم الذي يقابلني. أزحت رأسي إلى اليمين، ففعل البغيض مثلي.. وحين عبست في وجهه، لم يتوان عن العبوس في وجهي بالكثير من الشماتة. حينها راودتني رغبتي التي بدأت منذ ثلاثين عاما ونيف وما زالت عصية على التحقق؛ أن ألعب ‘الكمستير‘ مع قريني؛ أغافله وأمسك به.”

ورغم أن أحداث القصص قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة وذات مقدمات عادية، إلا أنها سرعان ما تنعطف إلى نهايات صادمة تكسر أفق توقع القارئ، نقرأ مثلا “اشتريت مرآة دائرية صغيرة من دكان مجاورة، ووضعتها في جيب سترتي. وحين انزويت عن الأنظار قليلا، أخرجتها، وبحثت عني فيها، بحثت جيدا، فلم أجدني. لم أجد رأسي. مددت يدي مرة أخرى أتحسس تضاريسها، فأدهشني استقرارها فوق عنقي. هرولت إلى بيتي أتأرجح كبندول، ودوار عنيف يبعثرني على الطرقات، ويحيلني إلى كتلة من فوضى. عند مدخل الحارة، ألقيت التحية على أبوالعبد وسعيد والآخرين، فردوا بأحسن منها.. كلهم عرفوني، إلا أنا.. يا للحسـرة، لم أعد أعرفني.”

ويحسب للقصص اللغة الرشيقة التي تشكل جزءا أساسيا في بنية القصة، بما تمتلكه من قدرة على التوالد والتشكل والتعامل بوعي مع الأبعاد الرمزية والدلالية.

12