"مرثية الأبطال الخارقين" استعادة شعرية لتاريخ الجزائر المهمش

أونتاريو (كندا) - تشكل المجموعة الشعرية “مرثية الأبطال الخارقين” لخالد بن صالح مغامرة شعرية جديدة يخوض غمارها الشاعر الجزائري، موثقا التاريخي واليومي بواسطة الشعري والجمالي، والذاتي والأسطوري بالاستعادي والمغيب، بما يجعل من أبطاله مزيجا من كل ما تقدم، في امتثال لقصائد تعايش وتشهد وتبوح، وتجسد بطولة شعرية باللغة والحواس والذاكرة والتطلعات المجهضة، أو كما يرد في قصيدة “أجساد محلية الصنع”: “يمكن هنا أن تنتهي صلاحيتُنا، ونتعفن كأجساد محلية الصنع. يمكن أن نضيع في الهواء كجزيئات غبار، وأن نطير كأوراق شجر ميتة قبل أن تدوسنا الأقدام المستعجلة”.
وتطالعنا القصيدة الأولى في المجموعة بعبارة “هنا الجزائر”، فإذا هي عبارة مفصلية، كما لو أنها تقدم لما سيلي من قصائد، لا بل هي ما تبدأ به كلمة الغلاف “هنا الجزائر، هنا الحي الذي نمشي بشوارعه، ثمة أصوات وهتافات وتنهدات، تظهر تارة وأخرى تغيب، كمن يبحث عن أغنية في راديو قديم”، وما الأغنية إلا قصائد الشاعر الجزائري خالد بن صالح في هذا الكتاب، وقد اتسق فيها كل شيء، ولم يعد بالإمكان الابتعاد عنها مترا واحدا، وهي تأخذنا رفقة أبطال باتوا خارقين لكثرة ما هم حقيقيون وثوريون، وقد حل بالذاكرة عطل رومانسي، بدا أشبه بلقاء امرأة تمشي فوق الماء، وغيوم من أنفاس هذا العالم.
وتأكيدا على هذه الـ”هنا”، فإن قصائد المجموعة لا تفارق المكان (الجزائر)، فهو منطلق نحو أزمنة الوطن الراهنة والسابقة وربما اللاحقة، بما يشمل الحراك الجزائري في فبراير 2019، الذي ينطلق منه بن صالح نحو كل شيء، متحركا بالزمن أفقيا وعموديا، آهلا بالذاتي والحياتي، بالثورة والثوري، إنهم “الحراكيون الذين يمارسون الحلم كما لو أنهم يمشون في ماراثون”، أو أولئك الذين يحدثنا عنهم في قصيدة “منتصف النهار”: “نحن جيلٌ احترقت ذاكرتهُ كغابة استوائية نحمل سؤالا محيرا، ينتهي بـ’ماذا نفعل في نهاية الأسبوع؟'”.
ويواصل “ومثل شجرة مليئة بأوراق ميتة لم تسقط بعد، نقاوم همومنا الصغيرة. لا نصلح للوظائف. كأبناء عمومة نتشاجر فيما بيننا. نحوكُ المؤامرات في الخارج. ولا نُقدر النهايات السعيدة، لأننا لا نرغبُ في ملء العالم بالمزيد من الهراء. نبحث عن طيفِ أبٍ في إعلانات المفقودين، عن أم تخلت عن منزل جميل بحديقة خلفية، حيث كان لنا أخوةٌ حفاةٌ يلعبون كرة القدم، ويتسلقون أسوارا عالية ليطلوا على البحر. الأغاني بطيئةٌ بما يكفي لتطفُو في عيونِنا. هكذا، نحول الأدغال المشتعلة إلى غابة، نعيدُ للشاطئ حدوده المتآكلة، وللمدينة طعم ثورات أسلافنا”.
هؤلاء هم أبطال خالد بن صالح، لكنهم مدعاة للرثاء، خارقون لكنهم محاصرون بالخواء والانتظار، ويعيشون في مدينة لها طعم ثورات الأسلاف، وبن صالح يكتب شعره في “مرثية الأبطال الخارقين” كذات تواقة للفعل والحراك، يهمس للقارئ، يناجي ويرثي، يهتف ويغني في الأوقات المظلمة، بما يعيد تعريف البطولة ربما، لتكون فعلا شعريا حرا.
وقد بدأ خالد بن صالح رساما، ثم ابتعد فجأة عن احتراف الرسم لأسباب غامضة حتى يجعل من الكتابة الشعرية قرارا حياتيا، خاصة بعد اطلاعه على أعداد من مجلة “شعر” ومختارات لرامبو و”أزهار الشر” لبودلير بلغتها الأصلية، أحب كل أشعار ابن عربي وأبي نواس مرورا بأبي تمام والحمداني.
كان كما يقول دائما يردد أنه شاعر، جاء من الأبواب الخلفية، في البدايات لم يفكر في خيانة الرسام الذي كانه لسنوات طويلة، وأن الشعر سيكون مصيره الأوحد في الحياة، مهما كانت أمكنته غامضة في داخله، فهو نقطة انطلاق نحو فهم العالم والوجود.
ويواصل بن صالح رؤاه الشعرية التي تكرست عبر مجموعاته السابقة في هذا العمل الجديد، ولو أن فكرة المشروع الشعري بالنسبة إليه لا تتشابك مع مفهوم الفكرة كامتياز، بقدر ما هي على علاقة بما يحاول كتابته ويستمر فيه، بينما الطريق طويلة ووعرة ولا تخلو من المطبات، لكن الأهم، كما يقول، هو الاستمرار.
ويقول حول مشروعه الشعري “مهمتي الكتابة، هذا ما يفرضه زمننا العربي اللاشعري، ولا تفكير في غير ذلك، لأن هناك خللا هائلا قد يحتاج شرحه إلى مساحات أكبر، وهو الهوة التي تبتلع الكثير من النصوص الشعرية الجيدة، وتمنح الفرصة لأخرى كي تطفو كجثث لا روح فيها على السطح. لا أنكر أن ما حدث من كتابات انتبهت إلى قصيدتي منذ كتابي الأول، كاف
بالنسبة إلي وفيه التقاط مرعب لجماليات النص وهفواته، وربما انتباه عدد من الذين قرأوا ما كتبت إلى حد اليوم والأصدقاء الذين رافقوني خلال هذه المدة، هو محرض على المغامرة واقتراف المزيد من الكتابة في حقل مليء بالألغام”.
وفي نصوص “مرثية الأبطال الخارقين” يستقدم الشاعر المراجع المكرسة ويسعى إلى بلبلتها، فنجده يذكر الكثير من الأسماء، ويربط نصوصه بمكانها وشعبها الذي تجاهله التاريخ الرسمي والأحداث الصغيرة التي يصنع منها تاريخا كاملا.
وجدير بالذكر أن مجموعة “مرثية الأبطال الخارقين” صدرت مؤخرا عن “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو، وجاءت بعد أن صدر للشاعر: “سعال ملائكة متعبين” 2010، و”مئة وعشرون مترا عن البيت” 2012، و”الرقص بأطراف مستعارة” 2016، و”يوميات رجل أفريقي يرتدي قميصا مزهرا، ويدخن L&M في زمن الثورة” 2019.