مراكز الرياضة النسائية تحوّر ثقافة العيب المجتمعي

مراكز الرياضة الخاصة بالنساء حصرا ظاهرة يتسع مداها في مصر، ولم تعد قاصرة على الأحياء الراقية أو الشعبية إذ امتدت إلى قرى فقيرة أيضا. ويشير خبراء إلى دوافع عديدة تقود السيدات لارتياد صالات الجيم النسائي، مثل الرغبة في الارتقاء بالجسد إلى المثل الجمالية المعاصرة.
القاهرة - مع الاقتراب من المركز الرياضي الصغير الموجود في منطقة الخصوص بمحافظة القليبوية (شمال القاهرة) تبدو الصورة قاتمة بسبب عشوائية الحي الفقير وتهالك الشوارع المؤدية إليه، وزحام عربات النقل المحملة بالبضائع والتي تريد المرور عبر شوارع ضيقة للوصول إلى السوق الرئيسية في شمال الحي.
مدخل المركز متواضع ولا يوحي بأن هناك حياة آدمية داخله، لكن كتب من الخارج وبخط أحمر متواضع الجودة “جيم للسيدات فقط”. ومع اجتياز العتبة الأولى داخل المركز الرياضي تغير المشهد تماما.
تقف سيدات بعضهن احتفظن بلباسهن المعتاد (الجلباب الشعبي) وأخريات ارتدين زيا رياضيا قصيرا، كشف عن سيقان بضة وأذرع مملوءة بالشحوم. الاختلاف في الملبس لم يلغ اجتماعهن في الروح الحماسية والقوة في الحركات الرياضية، التي تؤدى بهمة ونشاط.
تصرخ مدربة الجيم مطالبة السيدات بتقليدها في حركاتها الرياضية المعدة لخسارة الأوزان وحرق الدهون حول الأرداف وغيرها. ورغم صعوبة الحركات وقسوة التمرين ظهرن في حالة تركيز وطاعة.
تضحك سيدة وهي تميل على زميلتها تشجعها على تحمل صعوبة التدريب، “مجهود أكثر من أجل الفوز بعيون زوجك النسونجي”، فترد عليها “آمين يا حبيبتي، ويجعل تعبنا راحة، ويرزقك أنت بابن الحلال”، في إشارة إلى أن الأخرى لم تتزوج بعد.
اصطفت على اليمين واليسار بعض الأجهزة الرياضية البدائية، ورغم أن الحائط الذي ناله التصدع، ورائحة العرق التي ملأت مكان التدريب الذي لا يحتوي على منافذ تهوئة تتناسب مع طبيعة الممارسات الشاقة، لم تتوقف السيدات عن الدخول والخروج.
لم يكن الجيم الشعبي في الحي الفقير سوى امتداد لظاهرة يتسع مداها، ولم تعد قاصرة على الأحياء الراقية، فقد امتدت إلى قرى فقيرة أيضا.
تحولت اللياقة البدنية التي توفرها المراكز الرياضية (الجيم) في مصر من ثقافة مقتصرة على الذكور عموماً، إلى صناعة ذات طابع تجاري شملت العنصر النسائي أيضا.
وخرجت من إطار الأندية الكبيرة إلى مراكز الشباب، ومن صالات عملاقة يملكها رياضيون سابقون إلى منازل متواضعة، تملكها سيدات يحاولن تحسين وضعهن الاجتماعي.
أصبح من اللافت أن يكون الجيم النسائي وما يشمله من حمية غذائية بهدف إنقاص الوزن موضوعا مشتركا في لقاءات الفتيات والسيدات، وأحيانا يصبح موعد ذهابهن إلى صالات الجيم جماعات أو فرادى نقطة أساسية في ترتيب اللقاءات، بعد أن تحول إلى مكان للرياضة والسمر.
وبدأت الظاهرة في أوساط الطبقة الراقية، كتلبية لحاجة فرضتها أنماط حياة مترفة، ثم امتدت في السنوات الأخيرة إلى الأحياء الشعبية، وأخيرا تجاوزتها إلى قرى في محافظات مصرية مختلفة. وأضحت لافتات “صالات رياضية للنساء فقط” مألوفة وبرضا كامل من أصحابها الرجال، بعد أن رأوا في الأمر فرصة تجارية.
ينطوي هذا النمط من التحولات الرياضية والاقتصادية على أبعاد ودلالات مجتمعية كثيرة، وتثير الجدل عما إذا كان هذا النمط السلوكي النسائي يمثل تغييرا في طريقة تعاطي المرأة المصرية مع المجتمع أم هو محاولة لسد وقت الفراغ والتسلية؟
تجارة العادات والتقاليد
لم تراوح النظرة المجتمعية السلبية للاختلاط بين الجنسين مكانها، حتى وإن زعم البعض عكس ذلك، وغالبا ما كان سبب التوسع في أعداد صالات الجيم النسائي وراء تلك النظرة التي دائما تغلفها ثقافة “العيب” و”الحرام” والعادات الاجتماعية التي تحول دون ارتياد الفتيات صالات الألعاب المختلطة. وهو ما استفاد منه عدد من المستثمرين في الصالات الرياضية، فتلك الثقافة التقليدية يمكن تلخيصها في عبارة واحدة توصف بـ “تجارة العيب المجتمعي”.
تزامن مع ذلك ارتفاع ظاهر في نسبة الوعي الرياضي لدى النساء في مصر، وتخلصت كثيرات من الخجل ما منحهن جرأة للتعبير عن حاجة ملحة لتغيير نمط الحياة، ورغبة في الانتقال من ثقافة الاستهلاك التي كانت ترفع البدانة والأمراض المزمنة، إلى نمط حياة صحي نشط يدفع إلى تكريس مكان لهن لممارسة الرياضة.
ويقول محمد حسن -صاحب صالة جيم للسيدات بمنطقة الشرابية الشعبية في القاهرة- إنه أسس منذ عامين صالة رياضية للسيدات فقط، وكان منطقه “أفيد وأستفيد”.
ويضيف الرجل الأربعيني، لـ”العرب”، أنه أراد كسر بعض الحواجز الاجتماعية أمام النساء لتشجيعهن على ممارسة التمارين الرياضية، ويظهرن بالشكل الذي يليق بهن، وما شجعه على ذلك تعاطفه مع سيدة فاض بها الكيل من أنظمة التخسيس المختلفة، مع عدم قدرتها المادية على شراء أدوية لحرق الدهون، وهو ما أثر على وضعها الصحي ومنظرها العام، وأصبحت مهددة بالطلاق.
ويوضح أن المركز الرياضي يقتصر على السيدات، ما أتاح لهن ارتداء السراويل القصيرة والقمصان أثناء ممارسة التدريبات الرياضية، وتوصيل إحساس الراحة والأمان لديهن، بعيدا عن صالات الجيم المختلطة، وهناك سيدات التزمن وبالفعل نقص وزنهن عشرات الكيلوغرامات خلال عشرة أشهر فقط.
ويلفت حسن إلى أنه استفاد ماديا من المشروع، لأن هناك كثيرات يترددن على صالات الجيم النسائي من أعمار مختلفة، والاشتراك الشهري 350 جنيها (ما يعادل 19 دولارا) لممارسة الألعاب الرياضية والمتابعة الغذائية مع أخصائيين، وهو مبلغ جيد للجميع.
ظروف اجتماعية
لم يكن ارتياد السيدات الصالات الرياضية الظاهرة الوحيدة، لكن تقبل الأزواج أو الآباء ذهاب المرأة لممارسة الرياضة يعد تحولا جديدا، خاصة أن رب الأسرة (الأب أو الزوج) كان في أوقات سابقة يرى أنه شكل غير مقبول مجتمعيا، لأن المرأة عندما تترك بيتها لمشاركة آخرين في ممارسات غير مجدية كالرياضة، تكون قد ابتعدت عن مهامها المنزلية.
يبدو أن التفسير الأكثر منطقية بين آراء الرجال، أن السماح للمرأة بارتياد صالات الجيم وتشجيعها مرتبطان بأن مفهوم جمال المرأة ينبع من الرشاقة أساسا. ومع ارتفاع نسبة العنوسة والطلاق أصبح الاهتمام برشاقة المرأة بابا يجعلها أكثر جمالا، ويطرح فرصا أعلى للزواج أو تظل في عين زوجها الأجمل والقادرة على إسعاده في مجتمع يعاني الكبت الجنسي.
وأكدت زهرة عبدالحليم -صاحبة صالة تدريب نسائية بقرية كفر محسن في محافظة الشرقية (شمال القاهرة)- أنها أول من قامت بتجهيز صالات جيم للنساء في القرية، بسبب العادات والتقاليد المتشددة، لأن معظم سكان القرية يمنعون بناتهم من الذهاب إلى صالات الجيم المختلطة.
وأشارت صاحبة صالة الجيم النسائي لـ”العرب” إلى أن الأهالي كانوا متحفظين على مشروعها في البداية ويمنعون النساء من الذهاب إليه، ومع مرور الوقت بدأن يتوافدن على المكان بعد زيادة أمراض السمنة والقلب وآلام العمود الفقري الناتجة عنها.
وألمحت إلى أن الظروف العامة وانخفاض نسبة الإقبال على الزواج والكبت المجتمعي الذي بات يحيط بالمرأة داخل البيت في عصر امتاز بالسرعة، كل ذلك جعل الكثير من السيدات -وإن كن قادمات من مناطق شعبية- يذهبن إلى ممارسة الرياضة بعد أن أقنعن ذويهن بأن الرياضة لا تقي من الأمراض فحسب إنما تزيد من فرص زواجهن، وتضمن للمتزوجات الحفاظ على أزواجهن.
وتحولت صالات الجيم مؤخرا إلى مكان اجتماعي، تقتنص فيه الكثير من الفتيات فرص زواج بعد أن ترشحهن سيدات أخريات زاملن فتيات يمارسن الجيم، ورأين فيهن نسبا صالحا لأقاربهن الرجال.
انسحاب إلى الجسد
يشير خبراء إلى دوافع عديدة تقود السيدات إلى ارتياد صالات الجيم، مثل الرغبة في الارتقاء بالجسد إلى المثل الجمالية المعاصرة، حيث تحرّكت مقاييس الجمال تجاه نحافة زائدة عن الحد حلت في فترة ستينات القرن العشرين مع عارضات الأزياء، وربطت مفهوم الأناقة بقوام المرأة، وتحوّل جسد المرأة إلى موضوع جنسي مثير للشهوة وباعث للإعجاب في عيون الرجال، وأصبحت الملابس الضيقة رمزا للرشاقة ودليلاً على الصحة.
لا يعني هذا أن المصريات تحولن فجأة إلى مهووسات بأجسادهن، لكن التوسع المُلاحظ في إنشاء الصالات والأندية الرياضية ومحال بيع المعدات الرياضية ومساحيق “البروتينات”، كلها تشي بتغيّر في علاقة النساء من الطبقات المختلفة بأجسادهن وتصوراتهن الاجتماعية عنها، وما يمكن تسميته بالوعي الصحي عامة.
تذهب شيماء محمد -وهي شابة في أواخر العشرينات- إلى صالة جيم نسائي بمنطقة الحلمية في القاهرة، ولم تعد تبالي بنظرة المجتمع لها، وكشفت لـ”العرب” أنها تتردد عليه بانتظام منذ سبعة أشهر، ما يمنحها إحساسا بالكفاءة والإنجاز، ويتضح ذلك من مسار يومها، وانتظام نومها ما يكسبها نضارة وثقة ومظهرا أفضل ويشعرها بأنوثتها.
وقالت إن الذهاب إلى صالة الجيم “يحسن صحتها النفسية، ويمكنها من التغلب سريعا على أحزانها وتوترها واكتئابها، كما تستطيع من خلاله بناء شبكة من العلاقات الاجتماعية، تساعدها في الخروج من عزلتها”.
وهناك اللاتي يشعرن داخل الصالات بأنهن متحررات ويسايرن الموضة، بعد أن صارت الرياضة عنوانا لابتعاد المرأة عن قيود أسرتها، لأن تحكّمها في جسدها هو الطريق الأقصر للوصول إلى القوة، وتحدي نظرات المجتمع الذي يرى أن العضلات ليست للفتيات.
كانت الكثير من النساء يخشين البدء في ممارسة التدريبات في صالات الألعاب خوفا من تطوير كتلة عضلات كبيرة، وهذا اعتقاد خاطئ لأن النظام الهرموني للمرأة مبني بطريقة لا تؤدي إلى تطور كتلة عضلية كبيرة.
وقالت إيمان عبدالرحمن -استشارية تغذية ونحافة- لـ”العرب” يوجد توسع مطرد في وعي النساء بأهمية الرياضة، ليس فقط للحفاظ على أجسادهن، لكن في أحيان كثيرة لحماية بيوتهن نفسها، لأن ممارسة الرياضة -وما تحدثه من تغيير في الروتين اليومي- تلبي حاجات النساء للترويح عن النفس وتجديد الدورة الدموية وانتظامها وإخراج الكثير من السموم من الجسم، ما يعطيهن قدرة إضافية للتعامل مع الضغوط اليومية المتزايدة في بيوتهن.
وأرجعت سامية قدري -خبيرة علم الاجتماع- التوسع في إنشاء صالات الجيم النسائي إلى الوجاهة الاجتماعية والرغبة المتزايدة من النساء إلى حد الهوس في النحافة التي تحققها تلك المراكز، أو التعامل معها كضرورة حياتية فرضتها الضرورة المجتمعية، والإيحاء بأن السيدة ذات الحال البسيط من طبقة اجتماعية أخرى.
وأشارت قدري لـ”العرب” إلى أنه أحاطت بالبدينات نظرة مجتمعية سلبية من البعض في مجالاتهن أو في حياتهن الاجتماعية الممتلئة بالشفقة مقارنة بأقرانهن النحيفات.
لكن يرى بعض علماء الاجتماع أن إغراق النساء في الاهتمام بالجسد، انسحاب مجتمعي في أحيان كثيرة، أو محاولة تعويض عدم القدرة على التحكم في الواقع الاجتماعي، من خلال فرض تحكم في الجسد بل وقمعه.
وهو ما يفرض تفسيرا غير مباشر، يتعلق بالتغيرات السياسية والاجتماعية مع زيادة ضغوط الحياة التي تصب في مصلحة ممارسة أوسع للرياضة وتحقيق الذات المفقودة في الحياة العامة.
رياضات خاصة
لا يتوقف هذا التطور على تغير وعي المرأة المجتمعي، من خلال زيادة أعداد المشتركين من السيدات، لكنه وصل إلى ظهور برامج رياضية خاصة بالسيدات فقط، والترويج لرقصات مثل الزومبا والملاكمة التايلندية وكروسفيت، ناهيك عن الرقص الشرقي. وأشارت مي فهمي -أخصائية بمركز رياضي للسيدات في إحدى المناطق الراقية على كورنيش النيل- لـ “العرب” إلى أن ازدحام الأندية الرياضية ورفضها دخول أعضاء جدد، جعلا البعض يفكر في فتح تلك الصالات في أماكن متعددة وتجهيزها بأحدث الأجهزة لتوفير جو صحي لا تشعر فيه النساء بإرهاق العمل وحمايتهن من الأمراض.
وتابعت “الجيم النسائي لا يعتمد على الأجهزة الرياضية فقط، إنما يعتمد أيضا على تمارين مختلفة تفضلها السيدات مثل رياضة كروسفيت، وهي رياضة تجمع بين رفع الأثقال والجري، وأثبتت فعالياتها في الفترة الأخيرة لإنقاص الوزن المكتسب وحرق الدهون المتراكمة، كذلك رياضات جمعت بين اللياقة البدنية والرقص وجذبت مئات السيدات”.
مع التزايد المطّرد في ضغوط الحياة، اتجهت سيدات إلى اقتطاع مساحة (غرفة) من منازلهن لوضع أجهزة رياضية خاصة بالرشاقة، واستقبال مشتركات يرغبن في استخدامها لتخفيف الوزن عبر اتباع حمية غذائية معينة، مقابل معاليم شهرية تضعها صاحبة الغرفة الرياضية المنزلية.
لم يكن التوسع في تأسيس صالات جيم خاصة بالنساء بعيدا عن مواقع التواصل الاجتماعي التي تلعب دورا مهما في تشكيل ثقافة اللياقة البدنية، بسبب رسائل الجسد المثالي التي تم نقلها كصورة نمطية، ما أوجد ضغوطا اجتماعية لمشاركة النساء في أنواع مختلفة من الرياضات، والتلهف إلى الرشاقة ومتابعة الموضة.
وقامت فنانات كثيرات بنشر صورهن على مواقع التواصل في أثناء ممارستهن الرياضة بصالات الجيم، ما كان دافعا قويا لتقليدهن من قبل معجبات. وساهمت بعض الأعمال الفنية في تغيير صورة المرأة العصرية، وأصبح الجسم الطبيعي قبل عقدين من الزمن مرفوضا لجيل اليوم، فالنجمات النحيفات هن النموذج المثالي للجمال والأناقة والرشاقة.