مذكرات فنان عراقي ناسك في رحاب الحروف

عمان – تصدر هذه الأيام مذكرات الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد بعنوان “حاج إلى بيت الله الحرام”، نكتشف من خلالها ملامح تجربة الفنان وتقلبات أفكاره ورؤاه وتجربته في الحياة والتصوف والفن.
ويتطرق الكتاب، الذي تصدره دار خطوط وظلال بعمان، إلى انطلاقة الفنان نحو تجربته الخاصة، وكيف بدأ آل سعيد يرتاد ميادين جديدة في البحث عما وراء ظواهر الطبيعة، ينظر إلى عالم كوني مليء بالأسرار، ينظر إليه مسحورا، يتأمله، يخترق آفاقه ويتجاوز بعض أبعاده. وذهب بعيدا في تفكيك الحرف، وعرف بنظريته “البعد الواحد”، وقد اتسعت حدود معرفته، وراح يتأمل الجدار، حين يعمد الفنان إلى الكشف عن الجوهر في أعماق الأشياء، وهو إنما يقصد البحث عن صفات الخلود فيها، كما يسعى لإسقاط الكثير من التفاصيل التي لا تخدم غرضه الفني ولا توصله إلى اقتناص لحظات الإيمان في ولادة الحقيقة.
الفنان الاستثنائي غيّر المسارات بحثا عن أغراض أخرى في الفن، لأنه يريد أن يمنح المشاهد رؤية جديدة ومثيرة، ذات معانٍ وصفات مغايرة للأشكال والرموز والتركيبات التعبيرية التي استنفدت معناها، وفقدت سحرها بسبب شيوعها المفرط، واستعمالاتها المتكررة، لذا كان عليه أن يجد تركيبات جديدة للمفردات التشكيلية، تمتلك تأثيرا جديدا ومرادفا في الأهمية لما يريد أن يقول.
ولعل هذه الخصيصة هي التي جعلت آل سعيد في مأمن من الضياع في متاهات الأساليب، إذ حدد منهجه التأملي كأولى حالات التسامي بالقدرات الروحية للفن، على خطى الرسامين الكبار. يقول مايكل أنجلو في هذا السياق “إن الذي أريد أن أريه في عملي، هو الفكرة التي تكمن وراء ما يسمى بالحقيقة، فأنا أبحث عن الجسر الذي يصل المرئي باللا مرئي”، لذا اعتمد شاكر حسن في أحد كشوفاته ما يعرف بتجربة “فن الحقيقة المحيطية” كشكل جديد في التعبير عن البعد الواحد.

الفنان كان يريد أن يمنح المشاهد رؤية جديدة ومثيرة بمعانٍ وصفات مغايرة للأشكال والرموز التعبيرية المستهلكة
وليس مصادفة أن يعتبر آل سعيد من أكثر الفنانين تأثيرا في تاريخ الفن التشكيلي، إذ كان يجمع بين قوة عمل اللوحة والتنظير اللذين استقاهما من تجربته الصوفية وأفكاره وتجربته الحياتية.
فالفنان الراحل بنظرية البعد الواحد كان يدعو إلى النظر إلى الفن بتجرد بعيدا عن كل المسميات، وقد كان شيخ الحروفيين العرب يقول بلغته الصوفية “أنا النقطة فوق فاء الحرف”. وكانت تلك الجملة الغامضة عنوانا لأحد كتبه.
لم تكن شخصية آل سعيد تنطوي على أيّ من مقومات الزعامة، كما نقرأ في مذكراته أو في ما كتب عنه، فهي شخصية قلقة، مرتبكة، حائرة، مترددة وميالة إلى الشك في البداهات. غير أن الرجل كان يدرك أن كشوفاته في الفكر الجمالي وفتوحاته الأسلوبية والتقنية كانت تؤهله لكي يكون زعيما لجماعة فنية.
بهذا الإحساس أنشأ آل سعيد تجمع البعد الواحد الذي أقام أول معرض له عام 1971. وكان استلهام الحرف العربي جماليا محور تلك المحاولة. غير أن فشل آل سعيد في أن يكون زعيما جعل عددا من أعضاء ذلك التجمع ينفضّ من حوله، وهو ما ألحق ضعفا في المحاولة الثانية لإقامة معرض للتجمع، حيث لجأ آل سعيد إلى إشراك عدد من الخطاطين الذين لا علاقة لهم بالرسم.
كانت التجربة الحروفية واحدة من أهم مراحل سيرته الفنية، غير أنها كانت تلاحقه باعتباره شيخ الحروفيين في العالم العربي، بالرغم من أنه تاريخيا لم يكن الحروفي الأول؛ لقد سبقه إلى ذلك العراقيان جميل حمدي ومديحة عمر. غير أن حروفية آل سعيد كانت شيئا مختلفا. لم تكن تزيينية كما هو الحال مع حمودي ولم تكن توضيحية كما ظهرت في لوحات عمر. كان آل سعيد قد شقّ طريقه إلى الحرف العربي بقوة الرسام الشقي الذي كان يرى في الكلمات المحذوفة والجمل الناقصة التي يكتبها الناس على جدران المدينة بعدا جماليا يشير إلى نوع مكتمل من الحياة.
لم تكن فكرة استلهام الحرف العربي جماليا لدى آل سعيد محاولة للتغزل بالحرف لذاته، بل ذهبت تلك الفكرة إلى ما يمكن أن ينطوي عليه الحرف من فزع وخوف وارتباك تعبيري. كان آل سعيد سيد الحروفيين لأنه لم ينسخ الحرف، بل اعتبره منجما لمشاعر فجعت بالطرق المسدودة من حولها.
ومن يعرف الفنان عن قرب سيقر بما يجده في مذكراته التي تقدمه في صورة الإنسان الماورائي في كل ما يفكر فيه ويقوله ويفعله. ولم يكن آل سعيد نخبويا في فهمه للفن.
لقد كانت حياته اعتيادية وكأي شخص موهوب يريد أن يسلك طريق الفن لصقل موهبته، فقد اختار الفن منذ بداياته الأولى، وضحّى بقيم كثيرة من أجله، وتجوّل في العديد من بلدان العالم (ألمانيا، إنجلترا، بلجيكا، الهند، فنزويلا)، وعاش في فرنسا وحدها أربع سنوات، ثم عاد ليحطّ رحاله في بلاد الرافدين، وكانت عودته إلى العراق انطلاقة فنية أخرى، بما فيها من جانب روحي قوي بصم تجربته جامعا بين الأصالة والتجديد.
وفي السنوات الأخيرة من حياته اختار الفنان أن يبقى مقبلا على ربّه ناسكا وزاهدا وطوباويا حتى، وكأننا به ينتمي إلى مجتمع المتصوّفة والدراويش الذين يعشقون ويموتون عشقاً، فكان من يراه يخاله شيخ طريقة أو مريداً في تكية. ورغم أنه قد حجّ إلى بيت الله الحرام منذ سنة 1968، وكان للحج الأثر الكبير في فنه، إلا أن تصوفه كان أكثر وضوحا نهاية التسعينات، إلى تاريخ وفاته سنة 2004.