"مدينة الأفق: ملحمة أميركية".. فيلم عن القتال من أجل الأرض والهوية

عانت المجتمعات الأصلية من الغزاة في كل بقاع الأرض، ومن بينها قبائل الهنود الحمر الذين واجهوا بطشا كبيرا من المستوطنين الجدد منذ أن ظهرت أول ثروات أوطانهم، من هذه الفكرة جاء فيلم "مدينة الأفق: ملحمة أميركية الفصل الأول"، الذي ركز على تصوير مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ الولايات المتحدة.
الرباط - تدور أحداث فيلم “مدينة الأفق: ملحمة أميركية الفصل الأول” للمخرج كيفن كوستنر في إطار من الدراما يصور فترة الـ15 عاما ما قبل وبعد الحرب الأهلية الأميركية (1861 - 1865)، مرورا بالعديد من الأحداث التاريخية التي شكّلت الواقع الأميركي. العمل من سيناريو كيفن كوستنر وجون بيرد، وبطولة كل من كيفن كوستنر، جينا مالون، إيزابيل فورمان، سيينا ميلر، آبي لي وجيمي كامبل باور.
تبدأ قصة الفيلم في وادي سان بيدرو بجنوب شرق أريزونا، حيث يقوم المساحون برسم الحدود بين الأراضي الزراعية للمستوطنين الجدد، الأراضي التي تمثل ساحة معركة حقيقية بين الحضور الثقافي للأميركيين المستوطنين وبين حياة السكان الأصليين، إذ تمثل الأرض هوية ومصدر حياة للسكان الأصليين، إلى جانب موارد طبيعية جديدة تفتحها الأرض للمستوطنين، هنا يبرز الصراع بين من يراها موطنا تاريخيا ومن يراها ساحة للاستثمار والتوسع، وهذا التوتر الجغرافي يؤدي إلى ظهور مشهدين متناقضين، فالأول هو السعي للاستقرار وفرض السيطرة على الأراضي، والثاني هو المقاومة والتساؤل عن الحقوق واستمرار العيش على تلك الأرض، وتجسد الأرض في هذا السيناريو مشهدا حيا يتفاعل معه الجميع ويؤثر في قراراتهم ويساهم في تأطير مصيرهم.
وتبرز المشاهد أسباب الاحتقان بين الأباتشي وهم مجموعة من قبائل الهنود الحمر السكان الأصليين لأميركا الشمالية، والمستوطنين الأميركيين الجدد، ويوضح الصراع بين القبائل المختلفة تفكيرا متباينا حول كيفية التعامل مع الوجود المشترك على الأرض.
وتمثل شخصية بيونسيناي العنف والمقاومة الشديدة التي يبديها السكان الأصليون تجاه ما يرونه تهديدا لهويتهم وأراضيهم، إذ تتجسد مقاومته للغزو الاستعماري في سعيه للتصدي بقوة لكل محاولة لتغيير التوازن الذي عايشوه لأجيال، بينما تعبر شخصية توايسيه الموقف المعتدل الذي يرى أن التعايش مع المستوطنين ممكن إذا تم التوصل إلى تفاهم رغم المشاهد واللقطات العنيفة التي تسبق هذا التعايش مثل حرق منازل الدخلاء.
هذا التباين بين القبائل يفسر التنوع في الرؤى داخل المجتمع الواحد، ويبرز الأزمة العرقية التي يعاني منها السكان الأصليون الأميركيون في مواجهة الوجود الاستعماري، بينما يفتح هذا الاحتلال المجال لتساؤلات عن خيارات المقاومة والتكيف في مواجهة القوى الخارجية المهيمنة.
تتجاوز الآثار الناتجة عن المواجهات العسكرية على الجانب الجسدي فقط، لتؤثر في النفس البشرية، فعلى سبيل المثال يبرز مشهد هجوم الأباتشي على مستوطني أوريزون كإحدى النقاط المحورية التي تكشف عن التداعيات النفسية للعنف على الأفراد، خاصة في مشهد مقتل النساء والأطفال بطريقة وحشية، ليترسخ الخوف في نفوس الأطفال، مثل شخصية راسل جانز الذي يجسد رعب الناجين من المجزرة، وهذه المشاهد تبين تأثيراته العاطفية والنفسية على النفوس البشرية التي تعيش في هذا الواقع الدموي، فالصدمة النفسية التي يعاني منها الأفراد نراها في سلوكهم وردود أفعالهم، وتجعلهم يتحولون إلى شخصيات أقل قدرة على التفاعل مع محيطهم الاجتماعي، ويظل هذا التأثير النفسي محفورا في شخصيات الفيلم.
ويعالج تكوين اللقطات في عمقه بين بيونسيناي وتوايسيه في قبيلة الأباتشي كمعركة على القيم والهوية، مع التركيز على الخلافات العرقية التي تنشأ في مواجهة الاستعمار، ويبرز كيف أن الجروح التي يسببها الغزو تطال أيضا النفوس التي تعيش بينهم في المجتمع حيث يصبح التحدي الأكبر في الحفاظ على وحدة القبيلة وسط حياة اجتماعية محتقنة تتحول فيها العلاقات إلى ميدان اختبار للهوية الثقافية والمواقف الأخلاقية.
وكل فيلم حتى لو كان مبنيا على الخيال العلمي مثل فيلم “مدينة الأفق: ملحمة أميركية الفصل الأول” يحمل في طياته عواقب كارثية تنتج عن تصاعد العنف، مثل مدينة مشوهة بالدماء والدمار، هذه الحبكة التقطتها كاميرا المخرج لإبراز النتائج الاجتماعية المدمرة للصراع المستمر بين الأباتشي والمستوطنين، فتزداد مشاعر الحقد والانتقام بين الجانبين. وبيّن المخرج أن كل عملية عنف تساهم في تجذير الكراهية أكثر فأكثر بين المجموعات المختلفة، ويصبح الجميع ضحايا لآثار العنف المستمر على الأرض وبين الناس، بينما تكون الحروب التي تدور على الأراضي الأصلية معركة على مستوى الروح والمجتمع، تستحيل معها إعادة بناء الحياة الاجتماعية دون تحمل تبعات الصراع التاريخي.
ونجح الممثل كيفن كوستنر في تجسيد أداء تمثيلي قوي ومتوازن لشخصية مركبة مليئة بالغموض، وأظهر لغة جسد منسجمة مع دور رجل قوي وصامت يحمل الكثير من الأسرار ويأتي من مكان بعيد كجندي سابق عاد ليحرر ما تبقى من الأراضي، بينما استطاع كوستنر الجمع بين أدائه كممثل ورؤيته كمنتج وكاتب سيناريو بجودة مشهود لها من طرف كل من شاهد هذا العمل في أجزائه الثلاثة، كانت له القدرة على دمج رؤيته الإخراجية في أدائه التمثيلي.
◙ كيفن كوستنر نجح في تجسيد أداء تمثيلي قوي ومتوازن لشخصية مركبة مليئة بالغموض وأظهر لغة جسد منسجمة
أضافت الممثلة الأسترالية آبي مشاهد ولقطات مرحة في كونها مراهقة وبائعة هوى، إذ أدت دورها بعفوية وأنوثة تماما كأنها قادمة من تلك الحقبة الزمنية، واللقطات والمشاهد التي ظهرت فيها جعلتها جزءا أساسيا من أحداث الفيلم لأنها رغم طيشها فهي أيضا إنسانة مهتمة برضيع أختها وتحميه من الأشرار والقتلة، فأداؤها عكس القوة والضعف في آن واحد، واستطاعت الموازنة بين الصورتين المتناقضتين لسلوك الشخصية.
وآبي لي هي عارضة أزياء وممثلة أسترالية، ولدت في ملبورن بولاية فيكتوريا بأستراليا، وبعد عدة سنوات ناجحة في عروض الأزياء، اتجهت إلى مجال التمثيل، واشتهرت بدورها في فيلم “مد ماكس: طريق الغضب”، وفيلم “آلهة مصر”، وفيلم “الشيطان النيون”، وفيلم “البرج الظلام”، وغيرها من الأعمال.
ومخرج الفيلم كيفن كوستنر هو مخرج وممثل أميركي بارز، فاز بجائزة الأوسكار مرتين عن فيلم الرقص مع الذئاب، كما فاز بجائزة غولدن غلوب عن الفيلم نفسه، وبدأ كوستنر مسيرته الفنية بعد أن وافق على العمل كمدير تنفيذي في أحد المحال التجارية، حيث كان يتلقى دروسا في التمثيل خمس ليال في الأسبوع. ومن خلال هذا العمل تمكن من تطوير مهاراته الحياتية والفنية حيث شملت تجاربه العمل على قوارب الصيد، وسائق شاحنة، وتقديم جولات في منازل نجوم هوليوود، ثم أصبح واحدا من أبرز الفنانين والمخرجين في هوليوود، وشارك في بطولات أفلام شهيرة.
ويعد فيلم “مدينة الأفق: ملحمة أميركية الفصل الأول” جزءا أول من سلسلة تحمل الاسم ذاته، عرض للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي في مايو 2024، وحقق إيرادات عالمية بلغت 34 مليون دولار، رغم تلقيه ردود فعل متباينة وفشلة في شباك التذاكر. وقد بدأ كوستنر في تطوير الفيلم كفيلم مستقل منذ عام 1988، ثم قدم المشروع لاحقا لشركة أفلام “والت ديزني” بعد نجاح فيلمه “المدى المفتوح” في 2003.
وتم في يناير 2022 الإعلان عن تولي كوستنر إخراج وإنتاج الفيلم، إضافة إلى التمثيل فيه. انضمت شركتا “وارنر برذرز بيكتشرز” و”نيو لاين سينما” إلى المشروع في أبريل لتوزيعه، وفي يونيو 2022، صرّح كوستنر بأنه يخطط لتحويل الفكرة إلى سلسلة من أربعة أفلام، مع إشراك أكثر من 170 ممثلا في العمل، بدأ تصوير الجزء الأول في جنوب يوتا في التاسع والعشرين من أغسطس 2022 وانتهى في نوفمبر من العام نفسه.