مدرّس خصوصي يكشف فساد الرياضة والتعليم والمحليات في مصر

القاهرة – وسط نقاش محتدم بين مجموعة من المواطنين الذين كانوا يستقلون إحدى عربات مترو الأنفاق في القاهرة حول فساد صغار المسؤولين داخل مؤسسات حكومية وكيف أن المال يصنع كل شيء، أعاد بعضهم التذكير بواقعة المعلم الذي قام بتأجير أكبر قاعة رياضية ليقدّم فيها إلى طلابه درسا خصوصيا.
قال مواطن غاضب يدعى محمود بصوت مرتفع وملامح وجهه يكسوها الغضب “كل شيء أصبح مباحا في مصر، طالما تمتلك المال والشهرة، فقد تستأجر قاعة رياضية أو ملعبا رياضيا أو مؤسسة حكومية كاملة، ويكفيك أن تدفع للمسؤولين عنها مبالغ مالية للترضية، هذا لا يحدث في أي مكان بالعالم. وخير مثال على ذلك أن التعليم أصبح يُقدّم في المؤسسات الرياضية، لأن المدارس لا يذهب إليها أحد”.
وقد حدثت الواقعة قبل أيام بعدما لجأ معلم خصوصي شهير إلى استئجار قاعة حسن مصطفى للألعاب الرياضية في مدينة السادس من أكتوبر في غرب القاهرة، وجمع أربعة آلاف طالب ليقدم لهم مراجعة نهائية، وتحصّل خلالها على أكثر من مليون جنيه (نحو 20 ألف دولار)، وما لبث أن انتشر فيديو الواقعة ما أثار سخرية واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي.
الواقعة أشعرت الشارع المصري بالإحباط؛ فقد مثلت مؤشرا على انعدام دور المؤسسات الحكومية في قطاعات حساسة جدا
وتعكس الواقعة حجم الفساد في بعض المؤسسات الحكومية، إذ أن جهاز المحليات لم يتحرك مسبقا لمنع الواقعة، ووزارة الشباب والرياضة اكتفت بإحالة المسؤولين عن القاعة المغطاة إلى التحقيق وإبعادهم عن مناصبهم، ووزارة التعليم لم تُحرك ساكنا، ولم تعلق على الحادثة لكونها وقعت داخل مؤسسة رياضية غير تابعة لها، رغم أن الرأي العام حمّلها مسؤولية الحال الذي باتت عليه المنظومة التعليمية.
وألقت الأجهزة الأمنية القبض على المعلم بعد ثبوت صحة الواقعة وأحالته إلى النيابة الإدارية عقب موجة من الاستنكار والسخرية في مواقع التواصل، باعتبار أن ما حدث يعد من الوقائع الأكثر غرابة في تاريخ التعليم المصري، وأظهر حجم الانفلات الذي طال بعض المؤسسات وسط تلكؤ حكومي في تطهير الجهاز الإداري للدولة من العناصر التي تستغل نفوذها لتحقيق مكاسب مالية.
وتعد قاعة حسن مصطفى أكبر وأشهر القاعات الرياضية المغطاة في مصر، وتقام فيها بشكل مستدام منافسات كرة اليد على المستوى المحلي، وأقيمت فيها من قبل بطولة العالم للعبة، وتحمل اسم رئيس الاتحاد الدولي لكرة اليد، وهو مصري الجنسية.
ويفترض أن الدروس الخصوصية محظورة على المعلمين في مصر، ويحال أي معلم يخالف ذلك إلى محاكمة تأديبية ويتعرض لعقوبات مشددة تصل إلى حد الخصم من راتبه وتأخير ترقيته، ويحق لوزير التعليم إبعاده عن التدريس بشكل نهائي.
وأظهر مقطع الفيديو المتداول للمعلم مدى الشهرة التي يتمتع بها؛ إذ دخل القاعة المغطاة في حراسة مشددة، وتم استقباله بطريقة عكست حجم نفوذه، واستعان المعلم بمجموعة من المساعدين لتنظيم المحاضرة وطريقة الدخول والجلوس وجمع المقابل المادي من الطلبة، ولم يعترضه أحد، وقد صدمت المَشاهدُ المتصفحين.
وما أعطى الواقعة زخما إعلاميا وسياسيا أنها أشعرت الشارع المصري بالإحباط؛ فقد مثلت مؤشرا على انعدام دور المؤسسات الحكومية في قطاعات حساسة جدا مثل التعليم، إذ أصبح لزاما على من يرغب في التعلّم أن يدفع مبالغ مالية طائلة بعيدا عن المدارس إلى درجة أن ثمة أصواتا تطالب بغلقها والاستفادة منها في شيء آخر، ولم تعد ذات قيمة للناس.
وقال الحقوقي والباحث التعليمي بالمركز القومي للبحوث التربوية (حكومي) كمال مغيث إن “عدم الاكتراث بغضب الناس في ملفات حيوية يقود إلى تداعيات سياسية خطيرة، وواقعة تأجير قاعة مغطاة لإلقاء دروس خصوصية أبلغ رسالة عن الحالة التي أضحت فيها المنظومة التعليمية في البلاد”.
وأضاف لـ”العرب” أن “الواقعة تركت حالة غضب نتيجة غياب الثقة بإمكانية وجود تغيير للأفضل في ملفات مختلفة، وليس دور الشارع أن ينتفض طوال الوقت لإرغام المسؤولين على تصويب المسارات الخاطئة، والأوضاع الحالية تحتاج إلى المزيد من العقلانية السياسية في التعامل مع المواطنين”.
حادثة المعلم الخصوصي خلفت مشاعر سلبية لدى شريحة معتبرة من المصريين، صارت مقتنعة بأن بلادها أصبح كل شيء فيها مباحا
وما أثار امتعاض الناس أن بعض المؤسسات الرسمية تعيش في غيبوبة ولا تتحرك على قدر ضخامة الأزمات إلا بعد الكشف عنها من جانب المواطنين أنفسهم، وتحول الأمر إلى قضية رأي عام. ولئن صار ذلك يشكل عبئا على الحكومة فإنه يعكس حجم الوعي الذي أصبح عليه الشارع، واقتناع الناس بفكرة أنهم شركاء ومسؤولون عن مواجهة التقصير والفساد.
وتوحي إستراتيجية الحكومة في التعامل مع الدروس الخصوصية بأنها تتعمد غض الطرف عنها، طالما توفر المعلم البديل للطالب، وهي لا تمتلك القدرة المالية على تعيين خريجين كمعلمين لسد العجز في المدارس، بدليل أنها تمتلك كل الأدوات والقدرات للقضاء على مراكز الدروس لكنها لم تفعل ذلك رغم ما يُجمع فيها من مبالغ طائلة.
ومنذ وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى الحكم يتعامل مع ملف التعليم كأولوية سياسية واجتماعية، بالتوازي مع شن ضربات قوية ضد الفساد في القطاعات الحكومية المختلفة، حتى جاءت واقعة المعلم لتنسف الكثير من المكتسبات التي تحققت في الملفين.
وبسبب ضعف رقابة الحكومة والسماح لنوعية من المعلمين بالتوسع في تقديم التعليم الموازي، من بينهم أثرياء يمتلكون عقارات وأراضي وسيارات فارهة ولديهم تسعيرة خاصة بهم عن كل حصة دراسية، استقال أغلب هؤلاء من وزارة التعليم من أجل التفرغ للتعليم الموازي وتحقيق مكاسب مجزية.
وخلّفت حادثة المعلم الخصوصي مشاعر سلبية لدى شريحة معتبرة من المصريين، صارت مقتنعة بأن بلادها أصبح كل شيء فيها مباحا، ومهما كانت هناك مطالبات وخطوات للإصلاح مع استمرار الفساد الإداري فلن تتقدم خطوة إلى الأمام، ما يغذي التخوف من أن تصبح الجمهورية الجديدة نسخة من نظيرتها القديمة.