مخرجة يمنية ترصد التحولات العاصفة عبر فيلم كابوسي

صنعاء – في 18 مارس 2011 من ساحة الكرامة بالعاصمة اليمنية صنعاء، وفي لحظات ذات كثافة عالية، قدمت لنا المخرجة اليمنية المقيمة ببريطانيا سارة إسحاق فيلم “ليس للكرامة جدران”، والذي رُشح لجائزة الأوسكار هذا العام عن فئة الأفلام الوثائقية. كما شارك الفيلم في أكثر من 20 مهرجانا عالميا وتمّ اختياره أفضل فيلم في 4 منها.
خلف جدار مدهون بالإسفلت من قبل “البلطجية” وقوات الأمن المركزي، كمتلازم بصري مثالي مع عنوان الفيلم وروحه.
يبدأ الفيلم بمشاهد عامة لأحياء فقيرة، حيث التركيز على كل ما هو خارج عن طاقة الإنسان في توثيق الأرض والتعب، “نيجاتيف” لأطفال، وحالة الابتسام التي تلحق بالوجوه عبر مشهد والعبوس في مشهد يليه إنما هو طوفان آخر، ستشعر باختلاط الأمكنة في بعضها البعض مكونة المكان الواحد “ساحة الكرامة”. المجزرة التي وقعت فجأة بعد صلاة الجمعة وراح ضحيتها 53 شهيدا عن طريق الصدفة!.
مجزرة بشعة
الأطراف السائبة تتدلى، كانت الثلاجات كالتي يتمّ استخدامها في محلات البقالة جاهزة لاستقبال الشهداء، الأوضاع والحالات والحوارات تبدو عبثية ولا معقولة، وهي مطروحة ضمن رؤية كابوسية، تحتاج إلى وقت لنفهمها.
الشهيد أنور والذي يبدو في الصورة كائنا هشا، بل في منتهى الهشاشة، يتحدّث والده عن تفاصيل ذلك اليوم المخيف، عن ابنه الأصغر يقول: “أقوم يوميا وأمسح وأقبل الحذاء الذي كان يرتديه”. ويضيف: “أنا لا أصدق أنه راح”، بلهجته العامية. “لكن يكفي أنه ورفاقه قاموا بثورة” ويكمل: “عرفته من نظافة شعره فقط، هو نظيف ومحبوب من الجميع، لم نكن نتوقع أنه استشهد بهذه السرعة”.
الطفل سليم الحرازي أحد ملوك اليمن الضائعين اخترق رصاص القناصة عينيه ليبقى واحدا من هؤلاء المرذولين، الهامشيين، المنسيين، الهاربين من الفقر والجوع والتشرّد، وليظل شاهدا حيا على بشاعة المجزرة.
كثيرا ما تترك المخرجة اليمنية سارة إسحاق الحرية للمشاهد لفهم ما يحدث خارج إطار الكاميرا
صورة متواصلة، دون انقطاع، تتيح للمتفرج حرية اختبار، أو اكتشاف، فيما تتجلى واقعية الصورة تدريجيا في زمن حقيقي، لأشخاص يكافحون من أجل استرداد هوياتهم والعودة إلى قاعدتهم.
الفيلم، مصور بكاميرا ديجيتال، تستغرق مدته 26 دقيقة، يحتاج إلى تركيز كامل من المشاهد، فكثيرا ما تترك سارة الحرية للمشاهد لفهم ما يحدث خارج إطار الكاميرا. وعليه كثيرا ما نشاهد لقطات للأيدي والأقدام وأيدي الأبواب، وأجزاء أخرى من أجسام صوّرت منقوصة.
كذلك يبرز الاستخدام الفاتن لخاصية الصوت. فالأصوات البعيدة عن الشاشة تحمل أهمية رئيسية وبمنطق موسيقي خاص. قد يظل المتفرج لفترة قصيرة داخل الفيلم، لكنه لن يشعر بالتعاسة. فجميعها موظفة لزيادة الشعور باقتراب وقت الحرية.
فرصد الحركة الاحتجاجية السلمية، وتفاصيل التحركات الصغيرة لشباب الساحة. والموت المرافق في أي مكان. حيث لا حظر على مناطق دون أخرى، وببراعة سينمائية آسرة في تقديم الحكايات وتحليلها وتفكيكها. ترشح من بنية درامية قائمة بذاتها، بعيدا عن أي إقحام أو إسقاط أو ذهنية. ومروية بشكل بصري محترف تقنيا وفنيا في سرد الكاميرا، إذ أننا نرى كل شيء بعيني الراوي في لقطات مفردة، تتضمن حركة كاميرا متواصلة، حيث الحركات الاستعراضية (البان) الدائرية والحركات المصاحبة، أو تلك التي تقترب وتبتعد أو تتوقف لفترة قصيرة أو طويلة نسبيا، أو تلك التي تحوم وترقص وتمرّ وتحاذي وتتراجع وتتقدّم.
كاميرا ذاتية
عبر الكاميرا المحمولة/ الكاميرا الذاتية، وكيف لها أن تروي الحكاية ومن أي زاوية، واهتزازاتها التي تضفي أيضا ملمحا تسجيليا على الفيلم، فهناك غواية في المواصلة والاسترسال في توضيح ما نشاهده وننشئ علاقة معه تتجاوز القصة أو مساحة المتعة التي يتيحها، هناك سحر الأداء ولمعان الحضور التمثيلي لوالد الشهيد أنور وشهود الساحة. حيث ينجحون بتعاونهم وطهرانيتهم في احتلال حيز أكبر من الفيلم، داخل كادرات ضيقة، لتتسع دائرة الفيلم، المنسوج بدأب ومهارة، لتشمل المحيط. لعبة التقنيات في تقديم الصور والقصص نقلت مشاهد تحتفي بالتفاصيل وتكرس “فن البقاء” المرسوم بـ”فن السينما”.
الفيلم يعرض في إطار مواز للتجاور الفجائي مع صورة الكائن البدائي “البلطجي” وهو في حالة انتشاء غامر لقتله إنسانا آخر من أجل السلطة، نقلنا إلى مستوى آخر، وجهت سارة من خلاله نقدا للحكم القائم كليا على شهوة السلطة، المؤمنة بأن السلطة وحدها هي الحل لكل المشاكل والعلل الجسدية والنفسية، وبها يمكن تحقيق كل الأحلام والرغبات.