"محور الذئب" يوميات من التأمل الفلسفي تمجيدا لـ"روح الهرب"

ميلانو (إيطاليا) - بعد فوزه بجائزة ابن بطوطة للترجمة 2023 صدر مؤخرا، عن منشورات المتوسط – إيطاليا، وبالتعاون مع دار السويدي للنشر والتوزيع، كتاب “محور الذئب” مع عنوان ثانوي هو: من سيبيريا إلى الهند، على خطى الفارين من الغولاغ. للكاتب والرحالة الفرنسي المعروف سيلفان تيسون، وهو الحائز على العديد من الجوائز الهامة مثل جائزة غونكور للقصة، وجائزة رونودو للرواية، وجائزة ميديسيس للبحث.
وجاء الكتاب بترجمة الكاتب والمترجم التونسي أبوبكر العيادي، الذي “قدم لنا ترجمة بديعة”، واستحق عليها جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في مجال الترجمة، وفق بيان سابق للجنة تحكيم الجائزة.
أتى هذا الكتاب بعد أن قرر سيلفان تيسون أن يقتفي آثار مجموعة من المنفيين السياسيين في العهد السوفييتي، في مقدمتهم الضابط البولندي سلافومير رافيتش (1915 – 2004) الذي كان قد دون بدوره فرارهم من الغولاغ السيبيري ووصول الناجين منهم إلى الهند في كتاب بعنوان “المسير الطويل”، والذي شك الكثيرون في صدقية ما ورد فيه.
لم تكن نية سيلفان تيسون في كتابه هذا التثبت من مروية رافيتش، وإنما أن يعيش تجربتهم ومعاناتهم التي امتدت على مسافة ستة آلاف كيلومتر، ويحيي توقهم إلى الحرية.
عبر تيسون ثلوج سيبيريا وسباسب منغوليا وصحراء غوبي وجبال التبت وقمم الهيمالايا قبل أن يصل إلى كالكوتا، في رحلة بوسائل بسيطة مثل حصان أو دراجة أو زورق، أو على القدمين في الغالب. ولا يكتفي بوصف ما يصادفه، بل يمزج الجغرافيا بالتاريخ، القريب والبعيد، ويشفع ذلك بتأملات خاصة عن الإنسان والطبيعة والحرية والأيديولوجيا والمعتقدات والعادات، فضلا عن الشعر الذي يستدعيه كرفيق سفر.
في يوميات تجمع بين التأمل والنظر الفلسفي، وبين الرواية والقصة وأدب الرحلة، يطرح سيلفان تيسون عالمه الخاص، وعلاقته بالزمن، ومفهومه للارتحال، ورؤيته للتسكع أو التشرد والهرب بحثا عن الحرية.
يقول الكاتب “بعد عملية الهرب بستين عاما، يحملني القطار العابر لسيبيريا نحو مشارف بيقاليا، لأني أريد أن أقتفي على قدمي، وعلى صهوة حصان، وعلى دراجة، على إيقاع جهدي الجسدي وحده، مسار رافيتش ورفاقه في الهروب. ولا يهمني أن تكون ملحمتهم خرافة أم لا”.
ويضيف في كتابه “ما أريد الاحتفاء به هو ‘روح الهرب’ الذي يتمثل في تجميع المرء كل قواه وآماله وكفاياته، أن يهيئ كل شيء دون أن يترك اليأس يتسرب إلى إصراره كي يستعيد الحرية المفقودة. أن يهرب معناه، أن يمر من حال تحت الحياة (الاعتقال) إلى حال نجاة (الفرار) حبا في الحياة”.
ويتابع “لم يبق من المعتقل الذي ظل يشتغل حتى وفاة ستالين عام 1953 أي شيء عدا الجدران وبعض قوائم النوافذ المشمعة. ثمة نشيج يحوم ما وراء الأفق. بإشارات واسعة من يديه صاح في يوري بأن أعود”.
قد نفهم روح المغامرة والترحال التي كتب بها الكتاب إذا تأملنا في سيرة كاتبه الثرية، وعشقه للترحال والبحث عن الحكايات المفقودة، وهو ما يتجسد باقتدار في كتابه هذا.
وقد نشأ سيلفان تيسون في أسرة مثقفة، فأبوه فيليب تيسون صحافي وناقد مسرحي مشهور ومؤسس جريدة “لوكوتيديان دو باري”، وأمه ماري كلود ميي طبيبة وكاتبة. ولد سنة 1972 في باريس عاصمة الأنوار، ولكنه يميل بطبعه إلى العزلة والسكون والتأمل، فضلا عن تسلق المرتفعات. ومن ثم جاء شغفه بارتياد المناطق التي لم يلوثها الإنسان، ليس بغرض اكتشافها فحسب، وإنما أيضا للعيش فيها عيشة بدائية، ولو لفترة قصيرة، بعيدا عن صخب المدن الكبرى، والحياة العصرية القائمة على تصنيع لا يدمر البيئة وحدها، بل يدمر حتى علاقة الإنسان بالطبيعة وأنماط عيشه.
طاف تيسون حول العالم على دراجة برفقة كاتب رحالة آخر، هو ألكسندر بوسان (كتاب جبْنا الأرض على دراجة 1996)، وقطع خمسة آلاف كيلومتر مشيا عبر الهيمالايا مع الصديق نفسه (كتاب المشي في السماء 1998)، وطوى ثلاثة آلاف كيلومتر في آسيا الوسطى على صهوة جواد (كتاب نزهة فروسية في السباسب 2001).
أما مترجم الكتاب أبوبكر العيادي، فهو كاتب ومترجم تونسي مهاجر، يقيم في فرنسا منذ 1988. نشر ست روايات، وسبع مجموعات قصصية، ووضع كتبا بالفرنسية مستوحاة من التراث القصصي العربي والحكايات الشعبية التونسية، ونقل إلى العربية عدة أعمال من الأدب العالمي مثل “أمراض الأدب القاتلة” مقالات لمجموعة من المؤلفين، 1990، “ذهول ورعدة” رواية لأميلي نوتومب، 2012 و”مذكرات شيهم” رواية لألان مابانكو، 2015. آخر ما صدر له من أعمال روائية مترجمة: “بوذا في العالم السفلي” لجولي أوتسوكا، و”ليلة مع صبرينا” لبيدرو ميرال 2016، و”عدْو” و”بروق” لجان إشنوز عن مشروع كلمة، 2016.