محنة التضخم هاجس متجدد يؤرق الحكومة المصرية

ارتفاع الأسعار يضع القاهرة في اختبار المواءمة بين السياستيْن النقدية والمالية.
الجمعة 2024/04/12
اللحوم لمن استطاع إليها سبيلا!

يسيطر القلق على الحكومة المصرية بعد توقعات صندوق النقد الدولي بأن التضخم في البلاد سوف يظل مرتفعا خلال الأجل القريب، ما يَحُول دون تمكينها من تحقيق أهدافها الخاصة ببرامج الحماية الاجتماعية وتوفير الأمان المعيشي للطبقات الفقيرة.

القاهرة - تواجه الحكومة المصرية بسبب ارتفاع الأسعار عبئا ثقيلا لتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي، وهي مجبرة على ذلك لحل أزمة شح الدولار، فيما شرعت في إطلاق مبادرات تمويل لتحفيز القطاع الخاص على زيادة الإنتاج والمعروض من السلع.

ومع توصل البلاد إلى اتفاق بشأن رفع قيمة التمويل مع صندوق النقد الدولي من 3 إلى 8 مليارات دولار، توقعت رئيسة بعثة الصندوق إلى مصر إيفانا فلادكوفا استمرار ارتفاع التضخم على المدى القريب، وقد يبلغ في السنة المالية المقبلة 25.5 في المئة.

وتطارد مشكلة التضخم السلطات، خاصة أن القرارات الأخيرة المرتبطة بالخروج من الأزمة الطاحنة ذات طابع تضخمي بالأساس.

علي الإدريسي: وفرة الدولار ضرورية لمنع تكدس البضائع في الموانئ
علي الإدريسي: وفرة الدولار ضرورية لمنع تكدس البضائع في الموانئ

ومن أبرز القرارات المؤدية إلى ذلك تحرير سعر الصرف وما يترتب عليه من هبوط الجنيه أمام مختلف العملات، ومن ثم زيادة الكلفة على السلع والخدمات، وينطبق الأمر نفسه على زيادة أسعار الوقود.

وما يفاقم الأزمة أن الارتفاع الحالي في الأسعار يسبقه تضخم موجود في الأسواق، ما يعني أن الارتفاع الجديد في الأسعار يُضاف إلى الصعود القديم.

ويصعب تراجع التضخم في الأجل القصير مع عدم وجود رؤية واضحة، فالحكومة تواجهه عبر اجتماعات مع كبار التجار والمستثمرين وتطالبهم بخفض فوري للأسعار، وهذا لن يُجدي نفعا، لأن الاقتصاد والاستثمار يصعب التعامل معهما بمنطق التمنيات.

ويهدد التضخم خطط الحكومة الرامية إلى تعزيز برامج الحماية الاجتماعية التي اتخذتها مؤخرا بزيادة رواتب موظفي الدولة، ويقع الضرر الأكبر على الطبقات محدودة الدخل، لذلك تظل المعادلة المتمثلة في تنفيذ برنامج الإصلاح وحماية الطبقات المهمشة صعبة التحقيق عمليا.

وألمح صندوق النقد إلى ذلك، وطرح حلولا يصعب تطبيقها عمليا، حيث يرغب في إلغاء الدعم عن الوقود تماما، ولكن بسبب الآثار التضخمية المُرعبة لهذا القرار يطالب باستبداله بآخر نقدي موجّه إلى الفئات الأكثر احتياجا.

ولكن الخبراء يرون أن هذا الحل يستعصي تطبيقه لعدم قدرة الحكومة على توفير الحد الأدنى اللازم للرواتب، فضلا عن الافتقار إلى قاعدة بيانات واضحة وعادلة تبين المستحقين للدعم النقدي.

ويصعب إلقاء التخلص من أزمة التضخم على عاتق السياسة النقدية للبنك المركزي فقط، لأنه لا يملك سوى رفع الفائدة، وجرت زيادتها بالفعل نحو 19 في المئة خلال عامين، ما سيُضيق الأفق بهذه الأداة مستقبلا.

ويرى خبراء أن على السلطات التركيز بشكل أكبر على السياسة المالية لمواجهة غول التضخم، عبر محفزات أكبر من جانب وزارة المالية مع زيادة الإنتاج وهذا يتطلب جذب استثمارات وتقديم تسهيلات دائمة لها.

33.7

في المئة مؤشر أسعار الاستهلاك في مارس الماضي مقابل 35.1 في المئة في فبراير

ويقول الخبير الاقتصادي علي الإدريسي إن مواجهة التضخم تتطلب وفرة دائمة من الدولارات في البنوك، بحيث لا تتكرر أزمة تكدس البضائع في الموانئ، ومن ثم يزداد المعروض من السلع ومستلزمات الإنتاج في الأسواق.

وأوضح لـ”العرب” أن “استمرار توافر الدولار بشكل مستمر مؤشر على ارتفاع الجنيه، ما يحد من وتيرة ارتفاع أسعار السلع”.

وأدركت القاهرة أهمية ذلك وأقرت مبادرة تمويلية جديدة مطلع هذا الشهر، لتحفيز النشاط الزراعي والصناعي عبر برنامج قروض ميسرة بقيمة 1.6 مليار دولار.

وتأتي المحاولة التي تستهدف مصانع المناطق الحرة والمشاريع الزراعية والطاقة المتجددة لتعزيز مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد، وتوطين الصناعة، ودعم القدرة التنافسية للصادرات.

وما يؤكد أن سعر الفائدة ليس حلا لمواجهة التضخم هو ما تشهده تركيا، إذ ارتفع معدل التضخم في سوقها للشهر الخامس تواليا ليسجل 68.5 في المئة خلال مارس الماضي، رغم رفع الفائدة إلى 50 في المئة.

ويرى محللون صعوبة أن تسلك مصر طريق تركيا في رفع الفائدة، كونها من الاقتصادات المنتجة والصناعية فضلا عن تبعيتها لأوروبا، بخلاف أكبر بلد عربي من حيث تعداد السكان والذي يعتمد على الاستيراد، ومن ثم لن يتحمل شعبه ارتفاع التضخم.

وتوقع الإدريسي استمرار ارتفاع التضخم في الفترة المقبلة، خاصة مع زيادة أسعار المواد البترولية خلال الأسابيع الماضية، مؤكدا أنه سيظل تحديا كبيرا وقد يترتب على ذلك رفع الفائدة.

وخالفت بيانات المركزي حول التضخم، والتي أصدرها الاثنين الماضي، توقعات المحللين؛ حيث تراجع مؤشر أسعار الاستهلاك إلى 33.7 في المئة في مارس الماضي بمقارنة سنوية، مقابل 35.1 في المئة في فبراير.

سعيد يونس: احتدام الأزمة مستمر حتى الربع الثالث من هذا العام
سعيد يونس: احتدام الأزمة مستمر حتى الربع الثالث من هذا العام

وسيراقب القطاعان العام والخاص عن كثب المعدلات لمعرفة تأثير تعويم الجنيه على الضغوط التضخمية، بعد أن تجاوزت بيانات التضخم لشهر فبراير توقعات المحللين التي جاءت مرتفعة جدا.

وأظهرت بيانات جهاز الإحصاء أن التضخم قفز إلى 35.7 في المئة خلال فبراير الماضي من 29.8 في المئة في يناير الماضي، مدفوعا أساسا بارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات.

وأكد خبير الاستثمار سعيد يونس أن التضخم سيظل مشكلة كبيرة حتى الربع الثالث من 2024 على الأقل، وأن نسب الهبوط لن تكون كبيرة حال وقوعها لقسوة القرارات التي اتخذتها الدولة في سبيلها إلى مواصلة الإصلاح.

ودفع ارتفاع الأسعار وزارة المالية إلى رفع تقديراتها لحصيلة الضريبة على القيمة المضافة للعام المالي المقبل، الذي سيبدأ مطلع يوليو المقبل، إلى نحو 18 مليار دولار بزيادة نسبتها 25 في المئة بالمقارنة مع تقديرات موازنة هذا العام.

وأوضح يونس لـ”العرب” أن “الأداة الوحيدة ذات المفعول السريع لتحجيم التضخم هي رفع الفائدة، لأن الآليات الأخرى المرتبطة بالسياسة المالية لا تظهر نتائجها في الأجل القصير، وهي حل مناسب يتسم بالاستمرارية”.

ورأى ضرورة عدم رفع الفائدة مجددا، لأنه قد ينشأ عنه تفاقم الدين العام وزيادة عجز الموازنة، ما يعني أن كل إيراد تحققه الدولة من رفع الأسعار تتحمله هي في النهاية، ولا بد من تحقيق الانضباط المالي عبر زيادة الإيرادات دون الاكتراث بالمصروفات.

وأشار خبراء إلى أنه مع إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسي عن ملامح برنامجه في فترة ولايته الثالثة، فيما يخص الاقتصاد، فإنه لم يتطرق بشكل مباشر إلى مسألة التضخم، لأنها قضية تكون في تفاصيل الجانب الاقتصادي وهو ما لا يمكن أن يُطرح في الخطابات الرسمية.

لكن ما أعلنه السيسي يعظم القدرات والموارد ودور القطاع الخاص كشريك في التنمية، والتركيز على الزراعة والصناعة والاتصالات والتكنولوجيا عوامل أساسية تعزز تعافي الاقتصاد ووفرة المعروض من العملة الصعبة والسلع وتسهم في إيجاد أسعار مناسبة.

10