محنة الإنسان من الكلمة إلى الشاشة

أليست الحياة في حاجة إلى شهادات الشاهدين؟
من يوثّق لمن؟ ومن يحفظ الذاكرة الجمعيّة للبشرية بتطورها وعبقريتها وبعذاباتها وصراعاتها في آن واحد؟
أسئلة ربما تختصرها ثنائية الكلمة والشاشة، وكلاهما خضعا إلى تبسيط متكرّر عندما تحولت النصوص المكتوبة إلى سجالات وأنواع إبداعية ضعيفة ومحدودية التأثير، وتحولت الشاشات إلى فضاء لخليط متنافر تطغى عليه الرغبة في الترفيه.
وعند هذه النقطة الجوهرية نتوقف الآن كما يتوقّف غيرنا في أنحاء العالم عند تخلي الوسائط التعبيرية عن وظائفها الأساسية لتلاحق الترفيه بمتطلباته التي لا تنتهي، وحيث يتحول لاحقا إلى ثقافة وسوق رائجة تنفق عليها أموال طائلة سنويا في كل أنحاء العالم.
الترفيه في مقابل الثقافة، والترفيه في مقابل توثيق الواقع المتجسّم المحمّل بالأزمات والإشكاليات البشرية المعقدة، هذه الثنائيات صارت تجسد قوة الأزمة بين عالمين مختلفين وكأن كلّا منهما يعيش على كوكب.
الصراعات والحروب جسّدتها الشاشات ولا تزال، ما زلنا نشاهد أفلاما عن مآسي الحرب العالمية الثانية وضحاياها وما زال إنزال النورماندي أو المعركة على جزيرة إيوجيما حاضرين، بين جيوش أميركية وجيوش يابانية قصص تتجدد حافظة تاريخا قاسيا شكّل في ما بعد كثيرا من المعطيات والثوابت وقوانين الصراعات التي نعيشها اليوم.
الشاشات شاهدة على كل هذا، كلمات الجنود ومذكّراتهم كانت تتجسّد تباعا على الشاشة وصولا إلى ما صارت الشاشات تكتظ به من نقل مباشر للصراعات كما شاهدنا في حربي الخليج وصولا إلى غزو العراق.
وفي كل الحالات كانت السينما حاضرة، سوف نتذكر أفلاما مثل “الملوك الثلاثة” و”المنطقة الخضراء” و”القناص الأميركي” و”الجدار” و”فتيان أبوغريب” و”خزانة الألم” وغيرها من الأفلام.
والحاصل أن مساحة الترفيه بما فيها من سطحية وملامسة عابرة لوعي المشهد وانصراف عن البحث عن الحقيقة صارت هي السائدة والتي تجد لها جمهورا هائلا وشركات إنتاج وأموالا طائلة.
انسحب ذلك إلى طريقة إطالة أمد الوهم والخرافة من خلال السلاسل الطويلة من الأعمال القائمة على مغامرات متهافتة لا تقول شيئا سوى أنها تملأ فراغا طويلا يجد جمهور من المشاهدين أنفسهم محاطين به ولا بد من وسيلة ما لملئه.
صانعو السرد، كتّاب الدراما والمبدعون بالكلمة كلهم أيضا في وسط تلك الدائرة، فهم إما معنيون بإنتاج السطحية والتهافت والإلهاء وإمّا هنالك من يتجه نحو تعديل المسار ومواكبة البشرية في أزماتها، بل هي صورة إنسان وسط معاناة.
محنة الإنسانية تكمن في أن صراعاتها الظاهرة أو الخفية لا تنتهي وقد كانت وسوف تبقى، وكذلك اهتمامات البشر السطحية المؤقتة سوف تبقى حتى يغدوان مسارين متوازيين يترك أحدهما للآخر الطريقة التي يعبر بها عن نفسه، ولكن مهما ابتعدت موجات الترفيه والإلهاء بالمتلقي وحجرته في عزلته الجميلة فإن أزمات الحياة ووقائع محنة الإنسانية يمكن أن تتجسّم بمجرد أن تطلّ إلى خارج النافذة.