محمود عباس الساخر

من كان لا يعتقد أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس مليء بالسخرية، فقد أتاح اجتماعه مع “الأمناء العامين” في بلدة العلمين أن يرى ذلك بوضوح.
سخر منهم جميعا. وسخر من نفسه. كما سخر من قضيته. وحوّل الاجتماع إلى كوميديا سوداء، لا تعرف ما إذا كان يجب أن تضحك على نتائجها أم تبكي.
دعا عباس إلى الاجتماع في خضم العدوان الإسرائيلي على جنين، حتى ظن البعض أنه بدعوته تلك قرر أن يجلب الذيب من ذيله، وأن يقلب الطاولة على إسرائيل، فيوقف التنسيق الأمني معها، ويطلق سراح أكثر من 1200 معتقل فلسطيني في سجون سلطته لأسباب سياسية، الكثير منهم من أبناء جنين ومخيّمها.
قال “الأمناء العامون” في أنفسهم، إن عدوانا صارخا ودمويا كالعدوان على جنين، وغيره في نابلس والخليل والقدس، لا بد وأن يُحيي حتى العصب الميت في ضمير الرئيس عباس.
السخرية على أتمّها، هي أنه يزور دولا، ويستقبله زعماؤها، على أساس أنه رئيس دولة سوف تأتي، وهو يعلم أنه، بنفسه، يحول دون أن تأتي
لم يسألوه مسبقا ماذا سوف يعرض عليهم. ولكنهم ظنوا به خيرا، واعتبروا أن الدعوة، بحد ذاتها، مؤشر على استعداد سلطته للدخول في منعطف.
ضحك عليهم جميعا عندما لم يتضح شيء من هذا القبيل. سخر من مشاركتهم. وشدد على ما ظل يشدد عليه باستمرار. واستعاد شعار “سلاح واحد، سلطة واحدة”. ولكنه لم يقل ماذا يفعل هو بسلاحه وسلطته غير أن يجعله ويجعلها مطية للاحتلال.
وبدلا من عرض سبيل لتسوية الخلافات التي تؤدي إلى بقاء الانقسام الفلسطيني، فقد عرض “تشكيل لجنة” لحل الخلافات. واللجنة ليست هي الأولى من نوعها، إذ سبقتها لجان، وسبقتها اتفاقات، كما سبقتها تعهدات، كان بعضها قد تم في الجزائر التي خدعت نفسها به، قبل أن تتحول جميعها إلى مبعث سخرية.
ولكن النكتة الأهم ليست في أنه حوّل الضحك على ذقون “الأمناء العامين” إلى عادة يلجأ إليها كلما أراد أن يُسرّي عن نفسه، بل لأنه عاد ليشترط شروطا على أساس مستلزمات “حل الدولتين” من دون أن يقول أين هو ذلك الحل. أو ماذا بقي منه. أو ما إذا كان الاتجاه العام في إسرائيل، وليس حكومة بنيامين نتنياهو وحدها، يقبل به. فرهانه على حل الدولتين يقوم على نظرية “موت يا حمار”. وهو يعرف ذلك.
وأصل الحكاية في هذا الرهان هو أن حمارا دخل بستان الحاكم، فقرر إعدامه. فاستعطفه وزيره بالقول إن الحمار حيوان لا يفهم، ولو أنه كان يعرف الأصول والقواعد ما كان ليدخل في بستان الحاكم ليأكل منه دون إذن. فتقدم رجل، فعرض على الحاكم أن يقوم بتعليم الحمار الأصول والقواعد بشرط أن يمنحه الحاكم 10 سنوات وقصراً يعيش فيه لتعليم الحمار. فوافق الحاكم على هذا العرض وهدد الرجل بأنه سوف يقطع رقبته إذا فشل في مهمته. فلما بلغ الأمر زوجة الرجل سألته: وماذا سنفعل عندما تفشل؟ فرد قائلا “بعد 10 سنوات إما أن يموت الحاكم أو أموت أنا أو يموت الحمار”. وظل يدعو للحمار أن يموت أولا.
والرئيس عباس في قصره، مطمئن تمام الاطمئنان، بأن حماره لن يبلغ حل الدولتين وأنه سوف يموت قبل ذلك. ولكنه، ولأجل السخرية، وضع شروطا لمعارضيه بأن يلتزموا بمتطلبات الرهان كما يلتزم بها هو. فانفض الاجتماع على “لجنة” سوف تموت هي قبل الحمار، كما مات الكثير من قبلها.
ولقد استاء الأمناء العامون من نظرية “موت يا حمار” لأنهم أخذوها على الوجه الآخر، ذلك القائل إنه بينما الحمار يتضور جوعا ويكاد يموت، فإن صاحبه ظل يؤمله بمجيء الربيع.
باسم “الواقعية” اختار الرئيس عباس أن يسخر من الواقعية أيضا. فبالنظر إلى أنه ليس من “الواقعي” تحرير فلسطين بالسلاح، ولم يعد من الممكن تحريرها من النهر إلى البحر، فقد رست أشرعة الواقعية في مرافئ سلطته على مقدار من التبعية والتخاذل أمام الاحتلال حتى أصبح بقاء سلطته من مصلحة حكومة نتنياهو.
والفكرة لدى حكومة اليمين المتطرف تقول: إن مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية في حاجة إلى سلطات بلدية ترفع القمامة، ولديها شرطة تخدم أمن إسرائيل. وليس مهمّا أن تسمّي تلك السلطات البلدية نفسها دولة أو إمبراطورية، طالما أنها تظل تؤدي الواجب المطلوب منها.
الرئيس عباس في قصره، مطمئن تمام الاطمئنان، بأن حماره لن يبلغ حل الدولتين وأنه سوف يموت قبل ذلك. ولكنه، ولأجل السخرية، وضع شروطا لمعارضيه بأن يلتزموا بمتطلبات الرهان كما يلتزم بها هو
كل الأرض، خارج حدود تلك المناطق، تحت سلطة إسرائيل أو ملك لها. تقيم عليها مستوطنات، أو تبني ما تشاء، بينما تبقى “السلطة الفلسطينية” ترفع القمامة وتتنازع مع معارضيها على حل لا وجود له، ولم تعد هناك أرض ليقام عليها.
إسرائيل تريد الأرض والأمن. هذا هو الواقع. ولكي تقلبه، يجب أن تجعله واقعا باهظ الثمن. ما من احتلال عرفه التاريخ انسحب من أرض يحتلها، لأن هناك مَنْ يوفّر له الأمن فيها. شيء ساخر كهذا لم يحدث على مدار التاريخ. وعباس يسخر من نفسه عندما يعتقد أنه قادر على أن يوفّر الأمن لإسرائيل، وأن يقنعها، في الوقت نفسه، بأنه من المفيد لها أن تنسحب، لا لشيء إلا لأن هناك “شرعية دولية” و”مقررات مجلس الأمن”. رغم أنه يعرف، تمام المعرفة، أن إسرائيل وُجدت لتكون خارج معايير الشرعية الدولية، وبقت فوق مقررات مجلس الأمن. وهذه المقررات نفسها ظلت تتغير بحسب ما تمليه إسرائيل من الواقع. وعباس لا يجهل المسافة بين القرار 181 في 29 نوفمبر 1947 الذي أقرّ مشروع التقسيم والقرار 242 في 22 نوفمبر 1967 الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها ذلك العام، وصولا إلى القرار 1515 في 19 نوفمبر 2003، والذي يدعم “خارطة الطريق” التي وضعتها “اللجنة الرباعية”.
وكان الرئيس عباس نفسه عرض على مجلس الأمن خارطة التآكل للأراضي الفلسطينية منذ العام 1948 حتى الآن، ولكنه لم يعرض خارطة لتآكل قرارات مجلس الأمن. لأن الفضيحة كانت سوف تجلجل.
لقد كان يمكن لإطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين أن يقدم إشارة تقول لإسرائيل إن أمنها من أمن الفلسطينيين في مناطق سلطته على الأقل. إلا أنه سخر من سلطته عندما جعلها فرعا أمنيا تابعا لشرطة إسرائيل وأجهزة مخابراتها، وذهب إلى العلمين من دون أن يطلق سراح سجين واحد.
السخرية على أتمّها، هي أنه يزور دولا، ويستقبله زعماؤها، على أساس أنه رئيس دولة سوف تأتي، وهو يعلم أنه، بنفسه، يحول دون أن تأتي.