"محمود سعيد رائد الفن التشكيلي".. سيرة فنان مصري رائد

واحد وستون عاما تقريبا على رحيل الفنان التشكيلي المصري الرائد محمود سعيد، المبدع الذي تمرد على كل القيود الاجتماعية والأفكار النمطية وانتصر للجمال وبيئته، ليخلد اسمه رائدا في الفن التشكيلي المصري والعربي، وتذيع شهرته إلى العالمية، شهرة لم تخبُ رغم مرور عقود على وفاته، وهو ما يكشف عن تجربة فريدة، يستعيدها الكاتب المصري أحمد فضل شبلول في كتاب مبسط للناشئين.
القاهرة ـ عن سلسلة “تراث الإنسانية للنشء والشباب” بمكتبة الإسكندرية، صدر كتاب جديد عن الفنان التشكيلي محمود سعيد لمؤلفه الشاعر والروائي المصري أحمد فضل شبلول. يحمل الرقم 59 في هذه السلسلة الجديدة التي “تهدف إلى نشر الوعي والمعرفة في كل فروع المعرفة الإنسانية على نحو مبسط وسهل وجذَّاب، لجميع الشباب في مصر والعالم العربي، وذلك اضطلاعًا من مكتبة الإسكندرية العالمية بدورها المعرفي والتنويري، من خلال نشر رسالة مصر الخالدة عبر الزمان والمكان.”
وفي هذا العدد من السلسلة – التي يشرف عليها د. أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية ود. محمد سليمان نائب مدير المكتبة – يقدم شبلول بأسلوب سهل وبسيط معلومات عن حياة محمود سعيد ويبسِّط الحديث عن أهم أعماله ولوحاته الفنية.
مسيرة الفنان
يبدأ الكتاب الذي اختار له شبلول عنوان “محمود سعيد رائد الفن التشكيلي” بعبارات لمحمود سعيد نفسه يقول فيها “ما أبحثُ عنه هو الإشراق وليس الضوء.” و”اكتسبتُ الإلهام من الشرق والغرب لصياغة رؤيتي الفنية.” و”لمسة واحدة من اللون تكفي لتغيير أجواء اللوحة بأكملها.”
أما الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير الراحل حسين بيكار فإنه يربط بين سيد درويش في جانبه الموسيقي ومحمود سعيد في جانبه التشكيلي فيقول “بينما وقف سيد درويش على جانب واحد، مواصلاً دوره التاريخي في الموسيقى والغناء، فاتحًا آفاقًا جديدة من القوالب الغنائية التي استمدها من نفوس الناس واستنسخها من أفواه المنشدين، وقف محمود سعيد مقابله. فهذا الثنائي الرائع درويش وسعيد تبادلا حوارًا مبهجًا بين الشكل واللحن، مؤسسين معًا قواعد جديدة لفن مصري خالص في الجوهر والذوق.”
وعن نشأة محمود سعيد وتعليمه، يقول أحمد فضل شبلول “ولد محمود محمد سعيد في 8 أبريل عام 1897 في منطقة الأنفوشي بالإسكندرية لأبوين من أصول تركية وشركسية، وتوفي في فيلته بجناكليس بالإسكندرية يوم 8 أبريل عام 1964 عن 67 عاما. وما بين الميلاد والوفاة حياة حافلة بالفن والرسم والعمل في القضاء والسفر والتعلم ورؤية المتاحف والمعارض. كان والده محمد سعيد باشا وزيرًا، ثم رئيسًا لوزراء مصر من فبراير 1910 إلى أبريل 1914 ومرة أخرى من مايو حتى نوفمبر 1919.”
الكتاب يتحدث بشكل مشوق عن العلاقة بين محمود سعيد ومحمود مختار، وأبطال سعيد وأبطال روايات نجيب محفوظ
ويذكر أنه كما كانت العادة داخل الأسر الأرستقراطية في ذلك الوقت، تلقى محمود – وشقيقه حسين وشقيقته زينب – تعليمهم الأولي في المنزل على يد مدرسين خصوصيين. ثم التحق محمود بأربع مدارس خاصة مرموقة: كلية فيكتوريا البريطانية، ثم مدرسة الآباء اليسوعيين، في الإسكندرية؛ ثم مدرسة السعيدية الثانوية بالقاهرة، حيث تعلم الرسم على يد توفيق أفندي؛ ثم مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، حيث حصل على البكالوريا عام 1915. وبعد تخرجه في مدرسة الحقوق الفرنسية عام 1919 عُين مُدّعيا عاما في المحاكم المختلطة. ثم تولى العديد من المناصب القضائية قبل أن يصبح مستشارًا بمحاكم الإسكندرية المختلطة.
وفي وقت من الأوقات وجد محمود سعيد نفسه شاهدًا مباشرًا على جميع التغيرات السياسية والثقافية الجذرية التي تجتاح مصر، والتي صاحبها شعورٌ متزايد بالهوية الوطنية، خاصة بعد ثورة 1919 رغم حساسية موقف والده الذي كان رئيسا للوزراء وقتها. لقد نشأ شعور بالوطنية من النضال ضد الاحتلال الأجنبي، وتحوّل إلى رغبة عامة، شعرتْ بها الأوساط الثقافية المختلفة بعمق، للتأكيد على الهوية المصرية باعتبارها انعكاسًا للوعي الوطني. ومن هنا كان الفنانون يتطلعون إلى كنوز التراث الوطني بحثاً عمَّا يعزز ذلك الوعي وتلك الهوية، كل على طريقته. في هذه الفترة ارتبط محمود سعيد بموسيقى سيد درويش المصرية الأصيلة.
ويطرح الكتابُ سؤالا مهمّا: لماذا يرسم الفنان؟
يجيب محمود سعيد قائلا “أنا أرسم الصورة لمجرد الصورة في ذاتها، وليس لي فيها نفع آخر. أرسمها من أجل أن يتخلص الأحباب والصغار، من الهموم عند مشاهدتهم لها.”
لقد أحبَّ محمود سعيد الإسكندرية وألوانها وشوارعها وشعبها وصياديها وبناتها وخاصة في منطقة الأنفوشي حيث ولد في قصر والده الذي كان بالقرب من مسجد المرسي أبي العباس، تلك المنطقة التي كانت تتميز بروحانيتها وروائعها المعمارية. فقد كانت الإسكندرية هي المكان الذي استيقظتْ فيه روح محمود سعيد وظهرتْ فيه مشاعره الفياضة من خلال لوحاته.
أيضا يكشف الكتاب كيف كان يرسم الفنان، حيث إنه كان يتحرك كثيرا أثناء رسمه، يبتعد عن اللوحة، ثم يقترب منها، ويرى أن هذه العملية ذهابًا وإيابًا مفيدة جدًا. فعندما يقوم بإضافة أيّ لمسة إلى اللوحة، يبتعد عن القماش على الفور ليتفقد التأثير الإجمالي لتلك اللمسة الأخيرة على أيّ جزء آخر من اللوحة. فبمجرد أن يفصل نفسه عن سطح اللوحة، يجد عيونه منجذبة إلى الجزء المتأثر من اللوحة.
وتحدث الكتاب عن أساتذة محمود سعيد، وقد تأثر في بداياته بعدد من الفنانين العالميين من أمثال روبنز ورمبرانت، وقال “أحببت أعمال روبنز لحركتها وحيويتها، ورمبرانت بسبب المؤثرات الضوئية اللافتة التي استخدمها، وكذلك العمق والإنسانية وتحليل الشخصيات في أعماله،” كما أُعجب بعد ذلك بالبدائيين الفلمنكيين من أمثال جان فان إيك، وهانس ميملينج. وقد وجد في لوحاتهم شعورًا غنائيًّا داخليًّا. كما تأثر بالألوان التي استخدمها أساتذة البندقية من أمثال جيوفاني بيليني وكارباتشيو. كما أعجب أيضًا بفان جوخ وديلاكروا وسيزان ورينوار.
ثم يوسع محمود سعيد دائرة أساتذته فيقول “أسيادي هم جميع المتاحف التي زرتُها وجميع المشاغل التي ذهبتُ لرؤيتها. خلال صيف 1919 و1920 و1921، سافرت إلى باريس حيث درست في متحف اللوفر، وحضرتُ دروس الرسم في غراند شومير (في القسم ‘المجاني‘، دون أيّ أساتذة) وقضيتُ شهرًا واحدًا في أكاديمية جوليان مع أ. لورينز.”
كما جذب محمود سعيد عمالقةُ الماضي الذين أحبهم بشغف مثل ليونادرو دافنشي، ومايكل أنجلو الذي يقول عنه إنه “الفنان الوحيد الذي ارتفع فوق البشرية.”
ابن الشمس والبحر
الفن بالنسبة إلى سعيد مشابه تماما للصدمة العاطفية التي تتعرض لها الأم عندما تشعر بحركة جنينها في رحمها
كما يتحدث الكتاب عن المرأة في لوحات محمود سعيد، وإنتاجه الفني حيث وصل إلى أكثر من 300 لوحة، منها حوالي 100 لوحة موزعة بين جامعي الأعمال الخاصة عبر ثلاث قارات، ويوجد أكثر من 80 لوحة في المجموعات الفنية بمختلف المتاحف والسفارات المصرية والمنظمات الحكومية الأخرى حول العالم. و”52 لوحة، و5 اسكتشات في متحفه بفيلا جناكليس في الإسكندرية.” كما توجد مجموعة من أعمال الفنان عند أحفاد صهره حسين باشا سري في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وقد شعر محمود سعيد أنه لا يستطيع الجمع بين متطلبات عمله في القضاء وبين كونه فنانًا قطع شوطا طويلا في مجال الرسم والتشكيل الذي يعشقه، فقد كان لدى الفنان أثناء عمله في المحاكم، شعور بأنه مقيد بالأغلال. كان يرغب كثيرًا في الهروب من هذه الأغلال إلى العالم الحر. ويشعر أنه إذا توقفت عن الرسم، فسيصبح العالم بلا طعم، والحياة بلا معنى، وكأنه ميت. إنه يرى أن أجمل لحظات الحياة هي لحظات الخلق والإبداع. لقد تعب الفنان من الوثائق والملفات والتحقيقات وقراءة القواعد وإعداد نتائج الأحكام وإصدارها. تعب من الفتاوى والتشريعات والتفسيرات والتحليلات. إنه خُلق لرسالة أخرى، هي رسالة الفن. يشعر أنه رسول الفن.
لذا سارع بتقديم استقالته من عمله في القضاء عام 1947 وشعر بعدها أنه صار ابنًا للشمسِ وللبحرِ وللحريَّة، صار طليقًا في البريّة. وأراد أن يعوض نفسه عن كل السنوات التي سبقت تقديم الاستقالة والتي كبلته كثيرا وحدَّت من انطلاقه نحو الحرية والجمال واكتشاف روح الإسكندرية من جديد. لقد أحس أنه يتوهَّج بأشعة الشمس ويصبحُ روحانيًّا بضوء القمر.
شبلول يقدم بأسلوب سهل وبسيط معلومات عن حياة محمود سعيد ويبسِّط الحديث عن أهم أعماله ولوحاته الفنية
وقد أقيمت معارض كثيرة لمحمود سعيد كان أولها في عام 1919. وفي عام 1921 “شارك مع المثَّال محمود مختار في الصالون الذي نظمته جمعية أصدقاء الفن؛ يوسف كامل وراغب عياد ومحمد حسن،” كما شارك في “معرض أقيم في الفترة ما بين 21 و28 ديسمبر 1924 في مرسم الفنان روجيه بريفال بالقاهرة.” هذا بالإضافة إلى المعارض الاستعادية؛ ومنها المعرض الاستعادي لأعماله الذي نظمته جمعية أصدقاء الفن في الجزيرة تحت رعاية الملك فاروق عام 1951. وهو أول معرض استعادي لأعمال فنان واحد. تألفت قطعه من 145 قطعة فنية. أما المعرض الاستعادي الرئيسي الثاني فقد أقيم في الفترة من 26 يوليو إلى 26 أغسطس 1960 في متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية بمناسبة العيد الثامن لثورة يوليو. أما المعرض الاستعادي الثالث فقد أقيم مباشرة بعد وفاة الفنان عام 1964 في نفس المكان الذي أقيم فيه معرض عام 1960.
ولا شك أن أعمال محمود سعيد تتزايد قيمتها وأهميتها مع مرور الزمن، إنها مثل الذهب، بل أكثر قيمة، لأنها تشع جمالا وفكرًا وروحًا وعمقًا لا يستطيع الذهبُ الوصولَ إليه. وقد سجلت لوحة “الدراويش” المرسومة عام 1929 سعرًا قياسيًّا عالميًّا “هو 2.54 مليون دولار في أكتوبر 2010 أثناء عرضها في صالة مزادات كريستيز بدبي. وبمرور الزمن ستتزداد القيمة.”
وقد حصل الفنان على مناصب فنية وجوائز كبيرة، ففي 30 – 1 – 1956 صدر قانون “إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، كهيئة مستقلة ملحقة بمجلس الوزراء، وتم اختيار محمود سعيد كأول فنان في منصب مقرر لجنة الفنون البصرية بهذا المجلس وكان أول فنان تشكيلي يحصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون الجميلة.
إن الفن بالنسبة إلى سعيد مشابهٌ تمامًا للصدمة العاطفية التي تتعرض لها الأم عندما تشعر بحركة جنينها في رحمها لأول مرة. وخلال تلك المرحلة، من الممكن أن يستيقظ في الليل أكثر من مرة لتدوين أو رسم شيء ما يتحرك بداخله مثل الجنين الذي يرفس بطن أمه، أو ما يسميه الناس “الطَّلْق” معلنًا رغبته في الخروج إلى الحياة.
الإنجازات والتغييرات
عرض الكتاب قصة “بنات بحري” وأخناتون في لوحاته وعن الطيور والحيوانات في أعماله، كما تحدث عن لوحة “حفل افتتاح قناة السويس”. والطبيعة في لوحات محمود سعيد واللوحات الروحانية مثل “قبور باكوس” و”الدراويش” والصلاة” والذِّكْر” و”الزَّار” و”الشيخ في الشادر” وغيرها.
ويتحدث الكتاب عن العلاقة بين محمود سعيد ومحمود مختار، وأبطال سعيد وأبطال روايات نجيب محفوظ. كما توقف الكتاب عند بعض لوحات محمود سعيد مثل “معجزة الصيد”، و”العائلة”، و”الشادوف”، و”الوشاح الأحمر”، “والجزيرة السعيدة”، و”الجَمال الأسود” و”الأسطى فرج”، و”الدعوة إلى الرحلة” وغيرها.
إن الخلطة السرية في شخصية محمود سعيد وفنه هي أنه نظر إلى الإنسان المصري القديم – بعين الحب والاحترام والإعجاب والتبجيل – ووظَّفه لتفسير مشاهد من الحياة اليومية المصرية الحديثة، من خلال إعادة إيقاظ الفن الأوروبي في مصر، مع إعادة إيقاظ الفن المصري القديم. إنها نهضة مزدوجة حاول الفنان بعثها في الفن المصري بما يتوافق مع فلسفته.
هذه هي خلاصة تلك الشخصية الرائعة المؤثرة، وخلاصة فنه العريق الباقي على مدى الأزمان.
ولنستمع إلى محمود سعيد الذي يقول عن نفسه “لقد تحديتُ وسطي الاجتماعي لأصبح فنانًا، وقاومتُ كل إغراءات الفنون القديمة والحديثة لتحقيق أسلوبي الشخصي. اكتشفتُ الفن في سن المراهقة ومارستُه دون تعثر لأكثر من أربعين عاما. حاولت تقديم قيم فنية تتجاوز الظروف التاريخية أو المكانية.”
ولننصت إلى ما قاله الفنان التشكيلي والمخرج السينمائي كامل التلمساني “محمود سعيد لم يكن أقل قدرة من الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، وكان يتمتع بحنان الفنان البلجيكي بول ديلفو.”
ونختتم بشهادة محمود سعيد التي يقول فيها “أكاد أجزم أن الإنجازات والتغييرات الرائدة التي هزَّت مشهد الفنون البصرية في مصر لم تكن نتيجة لجهود شخص واحد، ولا فقط لجهود زملائي العظماء بل كانت نتيجة الجهود المشتركة لجيل كامل من الفنانين والمثقفين ومحبي الفنون الجميلة.”