محمد عبو سياسي تونسي يجرفه تيار الزعامة

عبو يحافظ على خطاب هادئ يبلغ المسامع والقلوب في آن واحد خلافا لكل السياسيين الذين عرفوا بآرائهم المتشنجة.
السبت 2018/09/22
الواقف ببهلوانية بين مسارات النضال وأهواء السياسة

السياسة في تونس، كما قدمت مسرحاً فيه قامات سياسية لافتة، أخرجت للعلن أيضاً، طبقة مترهّلة وعاجزة عن مسايرة الفعل السياسي والتكيّف مع الواقع المأزوم الذي تمر به البلاد. وهي عملية تلوح مفاعيلها أكثر مع كل منعرج تدخله تونس ويزيد فيه الحمق ضراوة وتعسر معه آلية البحث عن مخرج للأزمات المتباينة وليس آخرها أزمة الحكومة الحالية مع الأحزاب وكل المطالبين باستخراج وثائق دفنها.

وسط هذا السجال المتواصل تقريبا مع جل الحكومات التي تتالت بعد الثورة، يبرز خيط رفيع لكل متابع حصيف للمشهد السياسي يدفع إلى الأمام بوجه خارج عن سيطرة الأحزاب وهو من أشد الفاعلين فيها. يترك أحيانا هامشا في خروجه عن النص وهو المعد لأدوات بنائه وصياغته وطريقة إلقائه بأسلوب فيه من التنميق الخطابي الشيء الكثير. فيما الأهم من كل هذا أنه يتحوّز على إرث نضالي كبير.

شيء من هذا التوصيف يضع القارئ أمام سياسي خبره التونسيون جيدا بعد الثورة وتعرفوا على ملامحه وتجاعيد وجهه الطويل التي توحي بتشرّبه لجميع الملفات المرهقة سياسيا، وهو الواقف على الخط من كل مرحلة ضعف تمر بها تونس. تراه يشجب، يصرح ويندّد وينتقد والأهم من ذلك أنه يقدم حلولا ومقاربات يمكن الاستفادة منها وتطويعها والبناء عليها. في المقابل يعيب عليه خصومه مغالاته في المواقف التي يخرجها للناس وتحالفاته غير المحسوبة التي صدعت الرأي العام منه.

مشاريع خطرة على المسار الديمقراطي ونجاح الثورة تواجه تونس يحذر منها عبو لـ"العرب" وهي كما يقول "أخطر من أخطاء الترويكا لذلك بقيت على دعمي للشرعية، في حين خرجت الترويكا من الحكم شبه مطرودة لأنها لم تفهم أن الدولة يجب أن تكون قوية لفرض سلطتها وسلطة القانون على الجميع"

محمد عبو المولود في تونس العاصمة في العام 1966 محام وسياسي يعرف بنشاطه في مجال حقوق الإنسان برفقة زوجته سامية عبو. وهو أحد مؤسسي الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين وعضو في المجلس الوطني للحريات بتونس.

وكان كذلك عضو اللجنة التوجيهية في جمعية المحامين الشبان، وعضو المكتب التنفيذي لمركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة، وكان قياديا وعضوا بارزا في المكتب السياسي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية قبل أن يستقيل ويؤسس حزب التيار الديمقراطي. وقد شغل عبو أيضا منصب وزير لدى رئيس الحكومة التونسية مكلفا بالإصلاح الإداري في حكومة حمادي الجبالي بعد الثورة.

الباحث في كواليس محمد عبو يقف على تجربة طويلة من النضال انعكست على ممارسته للفعل السياسي وسطّرت حياة الرجل وكانت دافعا له للمضي في طريق الانضباط التكتيكي سواء حزبيا أو عبر المهام التي أوكلت له في جهاز الدولة بعد ثورة يناير على قلتها، فيما سيرته يرويها أبرز منتقديه بشيء من التحفظ نظير ارتباطه بأحزاب ودوائر المغالاة والرؤية الحزبية الضيقة خصوصا في عهدي الترويكا.

سنوات الجمر كما لم ترو

تشرّب عبو كثيرا من تجربته النضالية وعايش سنوات الجمر في ظرف اشتدت فيه المتابعة لكل نفس ثوري رافض. في المقابل كان معول الرجل الأساسي هو الكتابة والتعبير الفاضح. يدرك عبو جيدا أن وقع الكلمة على النفوس بالغ التأثير لذلك آثر السير في هذا الاتجاه، فكان الإحراج مضاعفا للسلطة في مقابل الفاتورة التي دفعها الرجل بالملاحقة والسجن.

تم توقيف عبو في 1 مارس 2005 وحكم عليه في 29 أبريل بثلاث سنوات سجن وستة أشهر بسبب نشره لمقالات على موقع “تونس نيوز”، وهو موقع ويب معارض للنظام السابق. وتروي نزيهة رجيبة تلك الحادثة بشيء من الحرقة عن الممارسات التي طالت العديد من السياسيين في تلك الفترة ومنهم عبو ورفيقة دربه سامية في مقال لها بموقع “الذاكرة التونسية لسنوات الجمر” الإلكتروني يحمل عنوان: لماذا أوقفوا محمد عبو؟

تقول رجيبة “ألقت السلطة القبض يوم 1 مارس 2005 على فتى من أنظف من أنجبت تونس من الفتيان ومن أكثرهم حبّا للحرية وتجنّدا للدفاع عنها.. كان إلقاء القبض على محمد عبو أشبه بالاختطاف وكان صورة تجسّد إفلاس النظام القائم في تونس”.

عذابات الملاحقة اليومية لا ينكرها عبو في كل لقاء تلفزيوني أو إذاعي تفرضه الإجابة ويتحول معه وجه الرجل إلى ألوان تعبّر عما يختلج بصدره من أوجاع ومآس لا يمكن فهمها أو فك رموزها إلا بما كان يخفيه جيل تلك الفترة من توق للتخلص من أهوال القمع والضغوط المتواصلة على كل نفس حر يطالب برفع الجور عن حرية الفكر والتعبير.

كواليس الحكم وأثمان التحالف

فترة تحالفه مع حركة النهضة يقول عنها عبو لـ"العرب" إن "تلك مرحلة جربناها وانتهت بمساوئها ولا نريد العودة إليها"
فترة تحالفه مع حركة النهضة يقول عنها عبو لـ"العرب" إن "تلك مرحلة جربناها وانتهت بمساوئها ولا نريد العودة إليها"

بعد ثورة يناير 2011 تم انتخاب محمد عبو كنائب في المجلس الوطني التأسيسي التونسي عن دائرة محافظة نابل الأولى. ثم عين في ديسمبر 2011 كوزير لدى رئيس الحكومة مكلف بالإصلاح الإداري في حكومة حمادي الجبالي وبعد تعيينه في هذا المنصب استقال من المجلس ليتفرغ له.

الواقع في مقاربة التجربة السياسية التي قرر عبو خوضها والاستقالة منها باكرا، رغم تباين ردود الأفعال حولها إلى الآن عبر كم الأسئلة الموجهة إلى الرجل حول الأسباب التي دفعت به إلى اختيار سكة الخروج، أنها لم تكن على مقاس الرجل الذي طمح إلى ثوب يكون أكثر اتساعا قادر على اكتناز تجربته الواسعة وتاريخه النضالي الكبير وحنكته في التسيير.

هنا تجد الصورة معنى لها في الدلالة التي تقدمها مصادر عليمة حول الفترة التي تولى فيها عبو وزارة الإصلاح الإداري زمن حكومة الترويكا الأولى وما عرفته البلاد من سجال حول الوظائف الوهمية والتعيينات التي دفعت النهضة إلى فرضها إرضاء لمنتسبيها و”تقديسا” لمبدأ الشفافية بمنظور براغماتي نفعي. فيما يقر منتقدوه بأنه كان الأولى ركوب التحدي ومواجهة الأزمة باقتدار لا الهروب والتحجج بأن الوضع لن يسمح بفتح ملفات الفساد.

ويتساءل التونسيون عن الدور الذي سيضطلع به عبو في مقاومة الفساد وإصلاح هياكل الإدارة التونسية التي كانت واقعة تحت نير من العائدين بمرسوم العفو التشريعي العام وآخرين تم الجزم بأنهم ضحوا بالغالي والنفيس من أجل تحرير البلاد من سلطة نظام غاشم ومتسلط.

الصورة بمنظور عبو لطبيعة تلك المرحلة وما عاشته البلاد ظلت ضبابية ومبهمة في معان كثيرة يصعب العمل على إعطائها المزيد من الإضاءة لتصبح أكثر وضوحا. إضافة إلى ما طبع القيادة حينها من تردّ بدت معالمه واضحة وتموجاته لصيقة بمصالح ذاتية وضعت الجميع في سلة واحدة بعنوان كبير “أنا وبعدي الطوفان”.

لم يفلح التحالف الذي كان حينها بين الترويكا الحاكمة، مثلما هو التحالف الآن، في الخروج من دائرة الفعل السياسي الضيق والتفكير في مقاربة إصلاحية شاملة تستدعي من الجميع الوقوف على خط واحد مفصلي. اتجهت النهضة صلب التجييش وكانت واقعة تحت لهيب الشكوك والانتقادات الواسعة نتيجة تراخيها في القيام بإصلاحات جذرية رغم أنه معلوم أنها لن تقوى على ذلك، في المقابل كان الرئيس السابق المنصف المرزوقي يسبح في اتجاه اللاعودة بمواقفه المتضاربة حينا والمغالية في أحيان أخرى.

وهنا خير عبو عدم الرجوع إلى تلك الفترة مقتصرا على القول لـ”العرب” “تلك مرحلة جربناها وانتهت بمساوئها ولا نريد العودة إليها”. وهو ما يفهم من كلام الرجل أن الاختيار لم يكن صائبا في اختيار “النهضة” شريكا، أظهر توقه للحكم منفردا فكانت خيبته بالخروج ذليلا كما وصف ذلك عبو بقوله “كانت هناك مشاريع خطرة على المسار الديمقراطي ونجاح الثورة، وهي أخطر من أخطاء الترويكا لذلك بقيت على دعمي للشرعية، في حين خرجت الترويكا من الحكم شبه مطرودة لأنها لم تفهم أن الدولة يجب أن تكون قوية لفرض سلطتها وسلطة القانون على الجميع وعادلة تشيع الأمان بين مواطنيها”.

طابع شرس للثنائي عبو

تفكير عبو في حزب مستقل يستوعب طموحاته يعد السبب في إعلانه عن التيار الديمقراطي رفقة زوجته سامية
تفكير عبو في حزب مستقل يستوعب طموحاته يعد السبب في إعلانه عن التيار الديمقراطي رفقة زوجته سامية

أسهم هذا المشهد “المتعفن”، على غرار ما تعيشه تونس اليوم، في مراجعة عبو لمجمل مواقفه وإيقاف العداد إلى حين وضوح الرؤية، لتأتي المبادرة في الخروج عن التوافقات والأحلاف والنظرة المتبصرة في تأسيس كيان مستقل عبر مبادرة جماعية عرفتها تونس في فترة تفكك حكومتي الترويكا الأولى والثانية عنوانها الكبير توق الزعامات إلى التخلص من إرث النهضة بتأسيس أحزاب.

يقر عبو بالأسباب التي دفعت إلى تغيير المواقع في كل مرة ومنها خروجه من حزب المؤتمر “بالنسبة إلى حزب المؤتمر كان رأيي أن البقاء فيه يعني تأبيد الصراعات لاختلافات جذرية تشقه ولست ممن يضيعون أوقاتهم في مشاريع يعرفون فشلها مسبقا في غياب دافع يتعلق بالمصلحة العامة”.

ومن هذا الأساس كان التفكير في حزب مستقل يستوعب الخيارات التي كان عبو يطمح إلى الدفاع عنها منطلقا للإعلان عن كيان جديد يحمل اسم التيار الديمقراطي، عهدت للرجل تولي رئاسته في البداية ولكنه بعد ذلك خيّر أن يكون ديمقراطيا حتى داخل حزبه، فتولى غازي الشواشي من بعده رئاسته، وهو الآن عضو منخرط في الحزب برفقة زوجته سامية عبو واللذان يتشاركان في تصدر استطلاعات الرأي في تونس حاليا كأكثر شخصيتين تستأثران برضى التونسيين.

استأثر الثنائي عبو بطابع شرس تظهره الزوجة أكثر بحكم موقعها كنائبة تحت قبة البرلمان حول قضايا مصيرية ومنها أزمة محاربة الفساد، فيما يظل سهم الرجل موجها إلى التعليق والشرح والنقد المعقلن لكل انزلاق يتمخض عن التجاذبات بين السياسيين على كثرتها.

مدارات الزعامة

وبالموازاة مع الشراسة الظاهرة يلوح التصلب في المواقف وتناقضها أحيانا سمة بارزة تحرك الرجل وتضعه أمام تساؤلات محرجة ليس أولها داخل دوائر حزبه وصولا إلى بعض المشككين في رؤية الرجل وطريقة مسايرته لبعض الملفات المطروحة. ومن ذلك مثلا موقفه من مسألة المساواة في الميراث حيث نشر عبو مقالا مطولا على صفحته بالفيسبوك، تضمّن موقفا مفصلا للحزب من مسألة المساواة في الميراث.

خلافا لكل السياسيين الذين عرفوا بآرائهم المتشنجة واللافتة يحافظ عبو على خطاب هادئ يبلغ المسامع والقلوب في آن واحد. تلوح مواقف الرجل وتعليقاته مع كل حدث يستدعي التدخل وتوضيح ما التبس على الناس.

يقول عبو ردّا على الاتهامات التي وجهت إلى زوجته خلال جلسة عامة مخصصة لقرار تمديد عمل هيئة الحقيقة والكرامة في تدوينة على صفحته الرسمية بالفيسبوك “تكلمت سامية في المجلس عن فساد نواب دون ذكر أسمائهم وهذا توجهنا في الحزب. نعرف البعض عن ممتلكاتهم التي اكتسبوها بالارتشاء وبابتزاز رجال أعمال منهم من يقبع في السجن اليوم.. أقول لهؤلاء غير عابئ بحسابات السياسة وبصورة السياسي الهادئ الذي يخفي غضبه سنتخلص منكم قريبا، إما سنة 2019 بتحييد مموليكم في الخارج والداخل وفرض رفع يدكم عن الدستور والقانون الانتخابي والإدارة، أو بمعركة هي آتية لا محالة سيحركها الذين لا تعنيهم العدالة الانتقالية ولا صراعات السياسة ولا الانتخابات”.

عبو يحاول التذكير بعذابات الملاحقة اليومية التي تعرض لها في كل مناسبة أو لقاء صحافي، ليتحول وجهه إلى ألوان تعبّر عما يختلج بصدره من أوجاع
عبو يحاول التذكير بعذابات الملاحقة اليومية التي تعرض لها في كل مناسبة أو لقاء صحافي، ليتحول وجهه إلى ألوان تعبّر عما يختلج بصدره من أوجاع

فيما كان أحدث تصريح سجل لعبو ووجه فيه الرجل سهام النقد لرئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد معبّرا عن استغرابه من المزاعم التي تحرك الأخير بالترشح للانتخابات الرئاسية بعدما وصفها بالكوارث الاقتصادية التي تعيشها البلاد. ونفى عدم قدرة الشاهد على محاربة الفاسدين. وهنا يقول عبو “الشاهد استغل السلطة لتصفية خصومه، وهو قادر على القضاء على الفساد إن أراد ذلك”.

تباينت مواقف عبو في الفترة الأخيرة من مسألة الأزمة التي تعيش تونس على وقعها، حيث سبق له أن وجه إنذارا لرئيس الحكومة في تصريح أدلى به إلى صحيفة أجنبية أكد خلاله على وجود خيارين أمام الشاهد يتعلقان بمتابعة الحملة ضد الفساد التي قال إنها متوقفة حاليا. ويتمثل الخيار الأول في الدخول في “مواجهة” مع رئيس الجمهورية، وهو ما سيمكنه من دخول التاريخ والتحول إلى رمز وطني لدى التونسيين، أو الخيار الثاني المتمثل في الإعلان عن فشل حملة مكافحة الفساد ومغادرة الحياة السياسية.

وأخيراً لا يبقى لدى التونسيين إلا أن يروا بوضوح كيف أن من جمعتهم مرحلة الاضطهاد الرهيبة على يد النظام القديم، من أمثال عبو، فرقتهم اليوم وأودت بهم في دروبها الواسعة أهوال السياسية والتزاحم على الزعامة والحكم.

12