محمد عبلة يعود إلى الجمال المريح ويشعرنا بالأمان

يُكتب عنه دائما كما لم لو أنه لم يُكتب عنه من قبل. فجديده الطالع من قديمه يقف به على حافة الاختلاف حتى مع نفسه. إنه مختلف يعدنا باختلافه في كل لحظة. لا أسلوب له. في كل مرة يرسم فيها يتبعه أسلوبه ويتطلع إليه.
الفنان المصري محمد عبلة الذي أُعلن مؤخرا عن حصوله على وسام غوته الألماني يرسم كما لو أنه يعيد النظر في ما رسمه في أوقات سابقة وما رسمه الآخرون لكن بخبرة فن وحياة جديدة. يمزج بين مدارس فنية حديثة عدة. فهو واقعي وانطباعي وبدائي ورومانسي ووحوشي وتجريدي في الوقت نفسه من غير أن تفلت خيوط الحكاية من يديه. تلك عادة مصرية لا يجد عبلة سببا للتخلي عنها حتى لو كان في قمة شعوره باللذة البصرية.
هناك شغف بالحكايات يُظهره عبلة بطرق مختلفة. مرة من خلال الرسم ومرة أخرى من خلال الكتابة. وهو في الحالين يساوي بين الكائنات. الجامدة منها والمتحركة. الإنسية والطبيعية. وما ذلك إلا انعكاس لعمل تخيّلي لا يحرم من بركته الصور المستوحاة من الواقع. فكل ما يرسمه وما يكتبه مستلهم من يومياته.
مصور حالات غير أنه في الوقت نفسه يلتقط صورا جميلة لذاتها كما يفعل حين يرسم الأشجار بسعادة تفصح عنها ألوانه. رسام متفائل يستعرض من خلال رسومه تفاصيل الفكرة الأصيلة للجمال المريح الذي يدعو إلى الشعور بالأمان.
يحكي ويرسم بالطريقة ذاتها
عبلة المأخوذ بسحر فن التصوير الفوتوغرافي خصص جائزة سنوية لممارسي ذلك الفن من الشباب. وهو بذلك لم يكتف بالمعارض التي أقامها مستلهما من خلالها أعمالا فوتوغرافية. لديه شعور عميق بأن ذلك الفن الذي صار جزءا من الفنون المعاصرة يمكن أن يكون مرجعية للحلم. ذلك شعور يتعلق بالزمن. وهي فكرة تمتزج بفكرة التماهي مع المكان الذي يفرض تجلياته الجمالية من غير الحاجة إلى تخيله.
تكشف رسوم عبلة عن حقيقة أنه عاش تحول الأشياء التي رسمها بعمق وحميمية كما لو أنها كانت جزءا من ذاته. وبذلك يختصر المسافة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي. هناك جنة يسعى عبلة إلى استعراض لذائذها هي تعبير عن موقع صلح بين الذات والطبيعة.
ليس عبلة رسولا للمنسيات بقدر ما هو رسول لما نراه ونهمله لأننا اعتدنا عليه. رسومه هي يومياته التي تكشف عن عاداته في الخلق. خلق يوم عابر يُضاف إلى الزمن محملا برائحة المكان.
فكرته عن المصريين تتغير من لوحة إلى أخرى، يعيد عبلة اكتشافهم من جديد، ولا يكتفي بما يراه بل يمضي بالمرئيات إلى أصولها العاطفية.
حين تراه لا تخطئ في هويته. إنه مصري. ويخطئ مَن يظن أن رسومه ليست مصرية، بالرغم من أنها لا تسعى إلى فرض هويتها بطريقة مدرسية. ربما كان عبلة مصريا أكثر من رسومه. فهي نافذة مزدوجة يفتحها على العالم ويسمح للعالم بالدخول إلى مصر من خلالها.
ولد في الدقهلية عام 1953. أنهى دراسة الرسم في كلية الفنون بجامعة الإسكندرية عام 1977. درس النحت بزيورخ في كلية الفنون والصناعات، وعمل أستاذا زائرا للفنون في إحدى مدارس أوربرو السويدية. بدأ العرض الخاص بمعرض أقامه في المركز الثقافي الإسباني بالقاهرة عام 1977. أما آخر معارضه الشخصية فقد أقامه عام 2020 وحمل عنوان "اللعب بالنار". ما بين المعرضين أقام عبلة حوالي أربعين معرضا شخصيا في مصر والكويت وألمانيا وهولندا والسويد. وها هو اليوم يستعد لإقامة معرض استعادي. كما شارك في معارض جماعية كثيرة حول العالم وقد كان دائم التنقل بين المدن.
الفنان في رحلته العالمية
عام 1996 نال الجائزة الأولى في بينالي الكويت وفي السنة التي تلتها نال جائزة بينالي الإسكندرية كما نال الجائزة الشرفية لترينالي مصر الدولي لفن الحفر الطباعي "كرافيك"، وأقام متحفا لفن الكاركتير في الفيوم.
في بداياته تأثر بتجربة الفنان الرائد حامد ندا. كان حريصا على فهم الأساس الذي بنيت عليه الحداثة الفنية في مصر وطريقة تعامل الرواد مع الموروث الجمالي المحلي. بعد ذلك انتقل إلى محاولة استيعاب الدرس الجمالي العالمي من خلال تجارب عدد من الرسامين الذين اعتبرهم أساسيين في الحداثة الفنية العالمية. كان لوقفته التأملية الأخيرة أمام أعمال الأميركي جاكسون بولوك أثرها العميق في تطوير تقنيات الخط لديه.
عبلة يلعب في مجال خيالي، الجزء الأكبر منه مستعار من عالمنا. غير أنه يمزج ذلك الجزء المستعار بعالمه المائي الغامض لينتج حياة تفاجئنا بقوة عاطفتها
ما يميز عبلة عمن سواه من الرسامين المصريين أن حرصه على أن يكون مصريا لم يقف حائلا بينه وبين إظهار حماسته لتأثيرات الفنانين العالمين الذين أعجب بأعمالهم. ذلك ما فتح أمامه أبواب مدن عالمية عديدة، سواء من خلال عرض أعماله أو الإقامة.
"على طريق الحرير" عنوان المعرض الذي أقامه عبلة عام 2016. تطلب إنجاز ذلك المعرض سنتين من القراءة والرسم. مَن رأى ذلك المعرض من غير أن يعرف الرسام سيتوهم أن كل الطرق ستكون سالكة من أجل الذهاب إلى الصين. لعبة عبلة في ذلك المعرض تنطوي على الكثير من المراجعات بين الداخل والخارج. هو هنا يعيد هيكلة مفهومي الداخل والخارج بما يليق بعالم نفس يرسم خرائط خفية تجمع بين الأزمنة. الماضي والحاضر وما بينهما الإنسان باعتباره زمنا متحركا. كانت دراسته لعلم النفس حاضرة في رسومه وإن بشكل خفي.
عاطفة من ماء للمصريات

في كل الأحوال فقد ركز عبلة على مفهوم الفن الاجتماعي. برز ذلك بشكل جلي في مساهمته بتزيين “حي كوم غراب” منطقة عشوائية تقع في قلب القاهرة القديمة. كانت العلاقة بين الداخل والخارج في ذلك المشروع قد لعبت دورا في تحريك المشهد الخارجي وإبراز جوانب غير مرئية من جمال الشخصية المصرية من خلال رسوم أضفت على المكان ملامح جديدة هي التي جعلت ذلك المكان يبدو كما لو أنه قد بُني من جديد.
"أحيط نفسي بالماء. حتى إذا اشتعل حريق مرة أخرى، يكون من السهل إطفاؤه"، يقول محمد عبلة وهو يتذكر بأسى أن حريق مبنى "سفر خانة" عام 1997 قد دمر أكثر من 500 عمل من أعماله. كانت تلك الواقعة مأساة شخصية يمكن أن تنهي أمل البقاء عند أي رسام آخر.
عثر عبلة على فرصة للتحدي في جزيرة القرصاية. كان عليه أن يدافع عن بقاء الجزيرة من جهة ومن جهة أخرى صار ينتج رسومه بطريقة مجنونة ليثبت للزمن أنه قادر على أن يقف على قدميه مرة أخرى: "لا أزال حيا"، تلك صرخته وهي التعبير الوحيد الذي استطاع عبلة من خلاله أن يرى النيل كما لو أنه لم يره من قبل. عاد عبلة إلى الماء يومها.
صارت فكرته عن المصريين تتغير من لوحة إلى أخرى. كان يعيد اكتشافهم من جديد. رسم عددا من اللوحات لنساء مصريات تسيل العاطفة بأجسادهن. مصريات من ماء. هذا رسام لا يكتفي بما يراه بل يمضي بالمرئيات إلى أصولها العاطفية. إنه يعلمنا طريقة جديدة في النظر. تلك طريقة تكشف عن حياة تقع إلى جوارنا غير أننا لم نكتشفها.
يلعب عبلة في مجال خيالي، الجزء الأكبر منه مستعار من عالمنا. غير أنه يمزج ذلك الجزء المستعار بعالمه المائي الغامض لينتج حياة تفاجئنا بقوة عاطفتها وتشدنا إلى سحر رؤاها. "في الرسم حياة أخرى" هذا ما يمكن أن يقوله عبلة.