محمد عبدالرحمن التازي.. مخرج يؤسس لرؤية مغربية خاصة في السينما والتلفزيون

مخرج مغربي عزز من حضور سينما بلاده في المشهد الإعلامي فبرزت قدرته على التنقل بين أدوار متعددة في المجال ما أتاح له توسيع دائرة تأثيره.
الأحد 2024/11/17
مسيرة فنية متميزة

الرباط- يعد الأثر الأبرز في مسيرة محمد عبدالرحمن التازي هو فيلمه الروائي الأول “ابن السبيل” الذي قدم فيه بصمته الفريدة، حيث تناول قصة سائق شاب ينطلق في رحلة من جنوب المغرب إلى شماله، وخلال تلك الرحلة يواجه العديد من التحديات والصعوبات، تجسدها الشخصيات التي يلتقي بها، والتي تستغل سذاجته، ومن هنا بدأ المخرج في طرح تساؤلات حول المجتمع والتعاملات الإنسانية، كاشفًا التوترات النفسية والاجتماعية التي يعايشها البطل في سعيه نحو هدفه.

وتميز فيلم “ابن السبيل” بأسلوبه السينمائي المغربي الذي دمج بين القضايا الاجتماعية والأبعاد النفسية للشخصيات، ليصبح أحد الأعمال في كرونولوجيا السينما المغربية، وتميز هذا العمل ليس فقط في تأليفه وتصويره، بل أيضًا في موسيقاه التي أضافت معنى وتجسيدًا للروح المغربية، ووضع المخرج نفسه بين صفوف المخرجين الذين مزجوا بين تقاليد السينما المغربية ومتطلبات المجتمع النامي.

أفلام متنوعة

◄ من خلال أسلوبه السينمائي الذي يجمع بين البساطة والتفاصيل الدقيقة استطاع التازي أن يعكس جوهر شخصياته ويطرح قضاياه

أخرج التازي بعد “ابن السبيل” فيلمه الثاني “باديس” (1989)، الذي يعكس طابعًا تاريخيًا عميقًا في سرد أحداثه، إذ تدور القصة في شبه جزيرة باديس، التي ظلت تحت الاحتلال الإسباني منذ القرن السادس عشر، ويحكي من خلاله قصة مدرّس انتقل إلى باديس من مدينة الدار البيضاء، ليجد نفسه في مواجهة مشاعر من الشكوك والمشاكل العائلية مع زوجته، ويجد المتلقي نفسه بين أبعاد إنسانية واجتماعية وسط الصراعات الداخلية التي تواجه الشخصيات في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية.

وقدم المخرج المغربي فيلمه الكوميدي “البحث عن زوج امرأتي”، قصة الحاج أحمد بن موسى الشهيرة، تاجر المجوهرات متعدد الزوجات، الذي قرر الطلاق من زوجته الثالثة بعد سلسلة من المشاكل المعقدة، ليكتشف لاحقًا أن ندمه كان أسرع من قراراته، فاندفع في رحلة لاستعادتها، متبعًا خطة تزويجها بشخص آخر في محاولة يائسة للعودة بها إلى حياتهم الزوجية، وقد امتاز أسلوب التازي في هذا الفيلم بمزج الكوميديا الخفيفة مع القضايا الاجتماعية التقليدية، حيث تكمن رؤية المخرج في معالجة مواقف إنسانية واقعية بأسلوب فكاهي، وهذا أتاح له أن يعرض تساؤلات حول العلاقات الاجتماعية والأسرية بعيدة عن التصنع، وهذا الأسلوب السردي البسيط في الظاهر كان يحمل في طياته بعدا اجتماعيًا يعكس الهموم اليومية للمجتمع المغربي.

وحقق “البحث عن زوج امرأتي” نجاحًا كبيرا، حيث وصل عدد مشاهديه إلى ما يقرب من مليون مشاهد، ليصبح واحدًا من أشهر الأفلام في تاريخ السينما المغربية، ولم يقتصر نجاح الفيلم على جمهوره المحلي فقط، بل عُرض في العديد من المهرجانات السينمائية الوطنية والدولية، محققًا العديد من الجوائز التي كانت خير شهادة على تميز أسلوب التازي المغربي، إذا نجح في ابتكار لحظات كوميدية لامست الحياة اليومية ودمجها مع قضايا اجتماعية حقيقية

ثم جاء فيلم “للا حبي” كتكملة لأحداث الفيلم السابق، حيث استمر الحاج أحمد في محاولاته لاستعادة زوجته الشابة، مظهرًا في هذا السياق المزيد من المواقف الكوميدية التي تعكس الطباع البشرية وتطرح قضية الأسرة المغربية في صورتها الأكثر تعقيدًا، حيث تمكّن المخرج من تقديم صورة حية للمجتمع المغربي من خلال مواقف تجمع بين الكوميديا والدراما، وهذا ما جعل أفلامه تحمل رسائل اجتماعية وثقافية، وتظل رؤية المخرج شاهدة على قدرته الفائقة في مزج التاريخ والدراما الاجتماعية والكوميديا بأسلوب مغربي أصيل، يحقق تفاعلًا قويًا مع الجمهورين المحلي والدولي على حد سواء.

أسلوب سينمائي

◄ أعمال تستعيد شخصيات مؤثرة
أعمال تستعيد شخصيات مؤثرة

كشف التازي من خلال “للا حبي” عن إبداعه المستمر في المزج بين الكوميديا الاجتماعية والظروف اليومية للمجتمع المغربي، حيث ركز على مفارقات الحياة الزوجية، مسلطًا الضوء على التحديات التي تواجه الأفراد في علاقاتهم، كما اعتمد المخرج في هذا العمل على أسلوب فكاهي يعكس الواقع المعيش، مقدماً نماذج إنسانية يعكف عليها بشكل سلس ليوضح التعقيدات التي يواجهها الناس، وهذه الرؤية بمثابة استمرارية لفكرته الأصلية التي جمع فيها بين الكوميديا والدراما الاجتماعية.

في عام 2003 قدم محمد عبدالرحمن التازي فيلمه “جارات أبي موسى”، مستلهمًا من رواية الكاتب أحمد خالد توفيق، كعمل يحمل في طياته أسلوبًا مغربيًا أصيلاً في السرد، حيث تداخل التاريخ بالدراما، ليروي حكاية “شامة”، الفتاة التي كانت محط إعجاب الشبان في القرن الرابع عشر، بما في ذلك مستشار الملك الذي عشقها وقرر الزواج بها، فقد نقلنا إلى عالم مغربي قديم، حيث تتحول حياة “شامة” من قسوة العبودية إلى رفاهية القصر، ثم ما تلبث أن تنقلب الأمور وتجد نفسها محاصرة بعد وفاة زوجها، محرومة من حقوقها.

كشف العمل تفاعلا مدهشا مع التغيرات الاجتماعية والسياسية التي طالت المجتمع المغربي في تلك الحقبة، بينما اعتمد المخرج في فيلمه على تقديم سرد درامي ممزوج بعناصر تاريخية مغربية أصيلة، متناولًا قضايا العبودية والحرية وحقوق المرأة في ظل نظام اجتماعي قاس. بذلك، عكس إلمامه العميق بالجوانب الإنسانية للمجتمع المغربي، مع إبراز ثقل التغيرات التي مر بها على مر العصور.

◄ التازي يسلط الضوء على التحديات التي تواجه الأفراد في علاقاتهم في عدد من أفلامه معتمدا على أسلوب خاص

وأخرج التازي فيلمه الكوميدي “البايرة”، حيث أبرز بشكل ساخر القيم الاجتماعية المغربية المتعلقة بالزواج، حيث تتناول القصة حياة فتاة تجاوزت سن الزواج فتبدأ رحلة البحث عن عريس وسط محاولات مضنية من عمها الكبير في الأسرة لإيجاد شريك لها. لكن العرسان الذين يتقدمون يهربون لأسباب غامضة، وفي هذا العمل حمل المخرج طابعًا فكاهيًا، لكنه لم يغفل عن نقد القيم المجتمعية المرتبطة بالزواج، وما تحمله من ضغوط اجتماعية في المجتمع المغربي، بينما تكشف القصة عن العلاقات المصلحية التي قد تحكم بعض العلاقات الاجتماعية، مع تسليط الضوء على الشخصية النسائية في المجتمع المغربي، التي تسعى لتحقيق حلمها في الاستقلال العاطفي والاجتماعي، ومن خلال هذه النظرة الاجتماعية الحادة، أظهر المخرج الفجوة بين التقاليد والحديث في مسألة الزواج، حيث تجسد المواقف الطريفة ما يعيشه المجتمع من تناقضات.

أما في فيلمه الأخير “فاطمة السلطانة التي لا تنسى” (2022)، عاد التازي ليبرز أسلوبه المغربي المتجذر في نقل حياة واحدة من أبرز الشخصيات الفكرية في تاريخ المغرب المعاصر، فاطمة المرنيسي، فمن خلال سرد أدبي ومرئي، نقل المخرج حياة هذه الشخصية الاستثنائية التي لم تكن مجرد كاتبة، بل كانت صوتًا قويًا في مجال الفكر الاجتماعي العربي والعالمي، ولم يقتصر الفيلم على استعراض مسيرتها الفكرية، بل امتد ليعرض جوانب إنسانية من حياتها الشخصية، حيث تكشف عن عمق شخصيتها وإبداعها الذي تجسد في البساطة والمحبة للعلم.

ومن خلال أسلوبه السينمائي الذي يجمع بين البساطة والتفاصيل الدقيقة استطاع التازي أن يعكس جوهر شخصية فاطمة المرنيسي التي كان لها تأثير كبير على الفكر المغاربي والعربي، وهو ما يعكس خبرته الواسعة في السرد السينمائي المغربي، حيث استطاع أن يقدم شخصية علمية مغربية في إطار إنساني معقول.

تأثير عميق

◄ إلمام عميق بالجوانب الإنسانية في المجتمع المغربي
إلمام عميق بالجوانب الإنسانية في المجتمع المغربي

وُلِد محمد عبدالرحمن التازي في مدينة فاس العريقة كبيئة تنبض بالإبداع والتقاليد، حيث نشأ محاطًا بجو من الأصالة والفن، درس في المعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، ثم بدأ مسيرته العملية في المركز السينمائي المغربي، حيث تولى منصب مدير التصوير، ليبرع في هذا المجال ويكتسب خبرات قيمة، وتسلم لاحقًا عدة مناصب إدارية وتقنية داخل المؤسسة نفسها، وهذا جعله لاعبًا أساسيًا في تاريخ السينما المغربية.

شارك التازي في إنتاج فيلم “وشمة” للمخرج حميد بناني، وتولى إدارة تصويره ليحقق الفيلم نجاحًا لافتًا ويثبت تميز دقة مدير التصوير في مجاله، ورغم النجاحات التي حققها محليًا، لم يتردد في السفر إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته في مجال التواصل، لفهم التقنيات السمعية البصرية الحديثة.

وفي الثمانينات أسس التازي شركة “الفنون والتقنيات السمعية البصرية”، ليبدأ بعدها في إخراج أفلام وثائقية ذات طابع مؤسساتي، دفعته لاستكشاف آفاق جديدة في عالم الإنتاج السينمائي.

◄ من خلال أسلوبه السينمائي الذي يجمع بين البساطة والتفاصيل الدقيقة استطاع التازي أن يعكس جوهر شخصياته ويطرح قضاياه

تولى التازي بعد سنوات من النجاح في مجال الإخراج بين عامي 2001 و2003 منصب مدير الإنتاج في القناة الثانية المغربية (2M)، حيث بدأ في ترك بصمته على الإنتاج الإعلامي، وساهم في تطوير المشاريع السينمائية والإعلامية للقناة، ثم انتقل إلى منصب مستشار في الإدارة العامة مكلف بالإنتاج بين عامي 2005 و2007، حيث عمل على توجيه الإستراتيجيات الإنتاجية، وعزز من حضور السينما المغربية في المشهد الإعلامي، فبرزت قدرته على التنقل بين أدوار متعددة في المجال الفني والإعلامي، وهذا أتاح له توسيع دائرة تأثيره وترك أثراً عميقاً في تطور صناعة السينما في المغرب.

ونال التازي تكريماً في مهرجان مراكش الدولي في 2010، تقديرًا لمسيرته الفنية المتميزة التي أكدت مكانته البارزة في السينما المغربية، إضافة إلى إخراجه الذي يحمل طابعه المغربي، وتولى التازي مناصب قيادية في صناعة السينما المغربية، منها رئاسته لرابطة المؤلفين والمخرجين والمنتجين المغاربة ورئاسة الغرفة الوطنية لمنتجي الأفلام.

المخرج الثمانيني أنجب مديرة تصوير شابة ومخرجة واعدة تدعى كنزة التازي. بدأت رحلتها السينمائية بعد ست سنوات من الدراسة بين جامعة السوربون في باريس ومدرسة ميتفيلم في برلين، اكتسبت خبرات متعددة في عدة أقسام سينمائية، مما ساعدها في التخرج كمديرة تصوير محترفة، تولت هذا المنصب في العديد من الأفلام القصيرة، والمسلسلات التلفزيونية، والكليبات، ما أتاح لها فرصة اكتساب خبرة عملية غنية، بعد أن كتبت سيناريو فيلم “إخوة الرضاعة”، إذ قررت التازي إخراج أول فيلم قصير لها، حيث دمجت بين تجربتها خلف الكاميرا وموهبتها في الكتابة والإخراج.

◄ مخرج له أثر عميق في تطور صناعة السينما بالمغرب
مخرج له أثر عميق في تطور صناعة السينما بالمغرب

8