محمد بن سلمان.. الصورة الأخرى المنسية

لتبرير انقلاب الرئيس جو بايدن على نفسه في الموقف من وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بدأت بعض وسائل الإعلام الغربية النظر إلى الوجه الآخر، الحقيقي بالأحرى، لهذا الأمير الشاب.
الصورة الوحيدة التي طغت على المشهد الإعلامي، منذ أكتوبر 2018 إلى يومنا هذا، كانت جمال خاشقجي. تحوّل الأمير محمد من رجل إصلاح إلى “رجل منبوذ”. كما قرر بايدن أن “ينبذ” المملكة بأسرها أيضا. تم نسيان كل شيء مما يعنيه مسار الإصلاح، لكي يتم التركيز على جريمة واحدة. كما تم نسيان كل ما يعنيه التحالف الاستراتيجي والمصالح المتبادلة التي تعود إلى ثمانية عقود من الزمن.
الانطباع الذي حاولت وكالة المخابرات الأميركية تركه، والتركيز عليه، هو أن الأمير محمد هو الذي وقف وراء مقتل خاشقجي. كان الأمر برمّته مدفوعا بدافع منهجي مسبق اسمه “معاداة السعودية”، ومدفوعا له، لأجل تركيز السهام على إصلاحي شاب اجتذب الاهتمام، على نحو عاصف، منذ أن تولى ولاية العهد في العام 2015.
الهدف، بوضوح، كان تشويه الصورة، واستبدالها بصورة أخرى.
محمد بن سلمان لم يسرق شعلة النار من أحد لكي يُصبح مثار اهتمام محلي وإقليمي ودولي. أوقد شعلته الخاصة بنفسه، وسار بها إلى الأمام ليقود بلدا وشعبا نحو مستقبل آخر
محمد بن سلمان لم يتغيّر، برغم كل الضغط الذي وقع عليه. مسارات الإصلاح ظلت تجري كما كان مقررا لها أن تجري. المملكة التي كان يغرق العديد من كبار شخصياتها بالمنافع الخاصة، أو قل الفساد، قطعت دابره بفضل حزم الملك سلمان وشجاعة ولي عهده.
أمراء ومسؤولون وضباط، من أعلى المراتب، واجهوا الاحتجاز، لكي تقول مؤسسة السلطة، إن الفساد لم يعد مسموحا به، ولا سبيل إلى التساهل معه. ومَنْ جنى ثروة عن طريق الفساد، أولى به أن يردها إلى الخزانة العامة، ليحفظ كرامته.
لقد كان ذلك منعطفا يكفي بمفرده ليكون بمثابة إعادة تأسيس للنظام ومؤسساته وإدارته. هناك اليوم في المملكة نظام سياسي صارم في مكافحة الفساد، بينما تغرق أمم ودول أخرى به.
الملك سلمان ووليه عهده يعرفان مسبقا، أن دولة ينخرها الفساد، لن تقوم لها قائمة. وتظل مهلهلة حتى تنهار في النهاية، وتصبح لقمة سائغة للضباع. وحيال تحد إيراني في الجوار، فإن الضباع هم الورثة. أنظر في العراق الذي كان يوما ما “دولة” فصار زريبة.
الطموح نوعان، على أيّ حال. الأول، أن تصل إلى ما ترغب من مراكز السلطة والنفوذ. والثاني، أن تبني منها لما بعدها.
محمد بن سلمان، منحته الأقدار نفوذا منذ أن تولى الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز قيادة البلاد. وهو الذي قرّبه إلى السلطة وليس أبوه.
ما كان “طموحا” للآخرين، لم يكن شغلا شاغلا له من الأساس. إعادة بناء المملكة كان هو شاغله الأول. وهو ما ظهر به منذ أن أطلق برنامج 2030 للإصلاح الاقتصادي والإداري والاجتماعي.
الآن أصبح بوسع بعض وسائل الإعلام الغربية أن تذكر أنه قاد حملة تجديد اجتماعي بمنح المرأة المزيد من الحقوق والحريات.
يوم كان ذلك الإعلام الغربي لا يجد شيئا يعيب به على المملكة أكثر من منع المرأة من قيادة السيارة، لم يعد هذا الأمر موضوعا الآن. ولكن مع حملة استبدال الصورة، فقد تم نسيان مَنْ هو الذي يقف وراء معالجة هذه المسألة. ومَنْ هو الذي وقف وراء تفكيك سلطة الشرطة الدينية المعروفة باسم “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ومَنْ هو الذي وسّع دارة الإفتاء لتضم شخصيات دينية أكثر تسامحا وأوسع أفقا، وأقرب إلى رحمة الله، من الذين جعلوا من جهنّم درعهم الواقي من الزلل.
هذا منعطف آخر يكفي بمفرده أيضا أن يكون بمثابة مشروع إصلاح ديني واجتماعي لتغيير صورة المملكة برمتها.
أما المشاريع الاقتصادية والاستثمارات فقد كانت بمثابة منعطف آخر، وضعَ أسسا راسخة لتحويل المملكة من بلد يعيش على عائدات النفط إلى بلد يبني اقتصادا جديدا يتوافق مع تطلعات المستقبل.
وضعُ أسسٍ مختلفة للرخاء الاقتصادي، ليس عملا يمكن الأخذ به بجرة قلم. إنه معركة خيارات وتقليب حسابات ومفاضلات رؤى. ثم إنه نظر عميق لكيفية توظيف الإمكانيات لكي تخدم أغراضا هي الأخرى مختلفة تماما، تتجاوز إنفاق العائدات النفطية إلى جعلها أداة لبناء ركائز جديدة.
بناء مدينة “نيوم” هو واحد من المظاهر العريضة لإعادة توظيف المال. ولكن أنظر في التفاصيل، ومنها توسيع دائرة التصنيع المشترك، وسترى أن “نيوم” رمز لمستقبل يقصد البلاد بأسرها، وليست مجرد نموذج لمدينة عصرية لما بعد عهد النفط.
إعادة التذكير بالصورة المنسية للأمير محمد، مفيد على أيّ حال. ولكن يتم تقديمها الآن مع شكوى ضمنية تقول إنه يؤسس لنظام “تسلطي”.
ولكن العاقل يفهم. السعودية بلد مفاهيم وعادات وتقاليد وقيم. التغيير ذو الطابع الحضاري يتطلّب وقتا ومواءمات تتوافق مع تلك المفاهيم والقيم، كما يتطلب موقفا صارما، وإلا فإنه سوف ينفلت إلى فوضى تدمّر كل شيء.
الملك سلمان ووليه عهده يعرفان مسبقا، أن دولة ينخرها الفساد، لن تقوم لها قائمة. وتظل مهلهلة حتى تنهار في النهاية، وتصبح لقمة سائغة للضباع
الصورة البديلة الجديدة تريد أن تقول إنه “رجل قبضة حديدية”. ويود العاقل لو يقول يا محلاها “قبضة حديدية” تبني مستقبلا مزدهرا.
القبضات الحديدية، لو صحّ الوصف، نوعان أيضا. نوع لصاحب كرسي يهنأ بسلطته. والآخر لصاحب مشروع لا يهنأ ولا يستقر بغير أن يرى بلاده تنعم بالثراء والقوة والاستقرار.
محمد بن سلمان يقاتل من أجل هذا الهدف. هذه هي صورته الحقيقية. ذلك هو شاغله الأهم. لم يسمع السعوديون منه، منذ يومه الأول، إلا هذا الشاغل المضني. ولم يحمل على كتفيه أكثر من هذا العبء. حتى لتشفق عليه، إذا كنت ترى الصورة في أصلها، أو حتى لتغضب منه لو كنت تريد أن تراه في صورة بديلة.
محمد بن سلمان لم يسرق شعلة النار من أحد لكي يُصبح مثار اهتمام محلي وإقليمي ودولي. أوقد شعلته الخاصة بنفسه، وسار بها إلى الأمام ليقود بلدا وشعبا نحو مستقبل آخر.
السعودية، البلد الذي يحتل مرتبة مرموقة بين أكبر اقتصادات العالم، لا يُقاد كما ظل يُقاد حتى نهاية عهد الملك عبدالله.
عندما تولى الملك سلمان السلطة في العام 2015 كان الناتج الإجمالي للمملكة يبلغ 666 مليار دولار. ولكنه حتى نهاية العام 2021 بلغ 833 مليار دولار، ونحو 5 في المئة من هذا الناتج، أو 41 مليار دولار، جاء من خارج قطاع النفط. وهذا الناتج هو ما سمح بأن تقفز المملكة مرتبتين إلى الأعلى عن العام 2020، من 18 إلى 16 بين دول مجموعة العشرين، على حساب دولتين أخريين تراجعتا في الترتيب.
هذه هي الصورة المنسية. إنها الصورة التي أراد الرئيس بايدن، وأجهزة الإعلام الغربية، أن يتم نبذها، فلا ترى إلا صورة واحدة مزيفة.
ولكن الحق يعلو في النهاية.