محمد العامري فنان المفاجآت التي يرعاها بعذابه الشخصي

العامري يخشى أن يستسلم لهذيانات الشاعر لئلا يضيع الرسم باعتباره كيانا مجسدا وفي المقابل فإنه يخشى أن تؤدي توضيحات الرسام المقننة إلى تبدد الغموض.
الأحد 2018/07/01
شاعر يستغيث برسام

شاعر وناقد فني ورسام، هي ثلاث حيوات في حياة واحدة.

ليس من اليسير على المرء أن يجازف في توزيع نفسه بين ثلاث مغامرات روحية، كل واحدة منها تتطلب وضعا نفسيا خالصا واستعدادا روحيا ومزاجا مستقلا، ناهيك عن طرق التعامل مع الأدوات واستعمالها من أجل الوصول إلى تقنيات مناسبة، ليس هناك من عذر إذا ما جاءت معالجاتها ناقصة.

الأردني من أصل فلسطيني محمد العامري فعل ذلك بكل أريحية.

في أوقات سابقة فشلتُ في الكتابة عن ظاهرته بسبب شعوري بأني قد لا أصل إليه لكي أمسك به. هناك شيء هو أشبه باللغز يجعل تلك الظاهرة عصية على الفهم. فالعامري يرسم مثلما يفعل الرسامون الحقيقيون، بشغف ومهارة وقدرة على استنطاق الخيال وهو يكتب النقد الفني بحرفية الناقد الذي يخترق التجربة الفنية وصولا إلى أعماقها الخفية وأخيرا فإن أشعاره لا يمكن أن تُكتب إلا من قبل شاعر حقيقي وضع العالم تحت إبطه ومضى في ضياعه.

من الطبيعي ألا نملك وقتا لتحليل تلك الظاهرة والكتابة عنها.  وإذا ما أضفت الجانب الشخصي فإن الأمر يزداد صعوبة.

العامري الذي أعرفه جيدا هو رجل ساخر بألم. يمكنه أن يضحكك ولكنه لا يستطيع إخفاء عذابه. لا يهمه كثيرا أن يُشار إليه باعتباره رساما أو شاعرا، فهو يعرف قيمة ما فعله في المجالين، غير أنه يعتني بقيافة أثر الناقد الفني الذي يعتبره ضروريا من أجل أن تقوم حياة فنية سوية.

العامري يقال مجازا إنه يرسم بيد الشاعر. غير أن الأمر ليس كذلك. إنه رسام محترف، درب يديه لكي تكونا جاهزتين لاستلهام خيال سلسلة من المواعيد مع فنانين، جعلوا لتلك الغيوم التي كان العامري يراها معنى مجسدا

يحارب العامري من أجل الاعتراف بضرورة ذلك الناقد في مجتمع لا يعد بالكثير من مقومات الفهم الحقيقي للديمقراطية التي هي أساس قيام حياة نقدية صحيحة.

ولكن لمَ جرؤت هذه المرة على الكتابة عنه؟

أعتقد أنني سأختبئ وراء الشخص لأراه في المرآة كما لم أره في أشعاره ورسومه وكتاباته النقدية.

يختلف معه الكثيرون ويختلفون في ما بينهم في النظر إلى تجربته. ذلك الاختلاف يعزز فكرة الكتابة عنه أكثر. بالنسبة للبعض فإنه شخص مشكوك به بسبب ما تنطوي عليه شخصيته من مفاجآت. العامري شخصية إشكالية. وهو وصف أعتقد أنه سيسره.

خصومه وأصدقاؤه جاهزون

ولد العامري في الغزاوية بفلسطين عام 1959. درس الأدب في الجامعة الأردنية التي عاد إليها بعد سنوات ليقيم في نفقها معرضا نادرا من جهة ذريعته التي هي محو الأمية البصرية. شعار صادم، غير أن العامري الذي أقام أكثر من عشرين معرضا شخصيا كان آخرها في بيروت عام 2017 بعنوان “أحجار” غالبا ما يذهب إلى هدفه مباشرة.

ما بين عامي 1993 و1996 عمل مديرا لغاليري الفينيق وهي تجربة رائدة في مجالها حيث يمتزج الفني بالاجتماعي. الأهم من ذلك أنه عمل سكرتيرا لتحرير مجلة صوت الجيل ورئيسا ومديرا لتحرير مجلة الفنون والمجلتان تصدران عن وزارة الثقافة الأردنية.

شغل منصب رئيس رابطة التشكيليين الأردنيين (2000 ــ 2002). وأقام في ميونخ بعد أن اختاره معهد غوته الألماني ضمن مشروع رواة المدن. أقام بعدها معرضا، استلهم من خلاله تفاصيل المكان الألماني كما قدم محاضرة عن جماليات ذلك المكان في دار الآداب بميونخ.

فرض عليه توزعه بين الرسم والكتابة عددا من العادات تتعلق معظمها بالكتاب. فكان لا يهوى تأليف الكتب وحسب، بل وأيضا رسمها من خلال الانغماس في أكثرها غموضا وسحرا وجلبا للحظ السعيد وهي كتب الشعر التي حرضته على أن يستخرج من جنباتها كتبا عن الصداقة. لقد استوحى العامري أشعار أصدقائه من الشعراء فألف سلسلة بياناته الشعرية المرسومة. كتب تشبه المعارض ومعارض تتشبه بالكتب.

من شعر العامري

وكنّا نربّي الظلالَ

على حجر في حديقة

على درج البيت

ونرمي بأحلامنا في فراغ النقط

هشير الوداع

الموت في العشب

نعد البلاد غيمة غيمة

نزرع الحلم في حجر الشعر

رمّانة فرطت ضَوءها في الستائر

ظلا تردّى بجُود الرُّعاة

نهر يمشّط أحلامه بالهشير

عام 2001 أقام في غاليري الأورفلي معرضا مشتركا مع الشاعر الفلسطيني الراحل محمد القيسي. بعد أربع سنوات أقام في الغاليري نفسه معرضا مشتركا مع البحريني قاسم حداد. وأنجز كتابين مع الشاعر الأردني أمجد ناصر هما “جاز صحراوي” و“لا راحل يهتدي بالنجوم” وله مع الشاعر الأردني طاهر رياض كتاب “كأنه ليل”. وفي مجال الكتب الفنية له أيضا “التفكير باليدين”، “ملاحة بصرية”، “التفكير عبر الكولاج”، “مسارات اليد” و”تجليات البصيرة”.

لسنوات طويلة كان العامري هو الناقد الفني المعتمد من قبل جريدة الدستور الأردنية. كانت متابعاته بمثابة شهادة فنان، يعرف قيمة ما يفعله الناقد وهو يكتب عن تجربة فنان أو عن ظاهرة فنية. في ذلك المجال لم يكتف العامري بمقالاته بل أصدر كتبا جعلته يحتل مكانا مميزا في الصف الأول من نقاد الفن العرب. عام 1999 أصدر كتابه “فن الغرافيك في الأردن” بعده بسنتين أصدر “الشاهد والتجربة” ثم أصدر عام 2003 كتابه عزلة الفراغ. بعد ذلك نشر كتابيه “سناء كيالي” و”توفيق السيد، حياته وفنه” وهو مؤلف مشترك.

في حالة العامري فإن على مائدة الناقد الفني يجتمع الشاعر والرسام وهما يعيشان حالة، يصعب وصفها. فهما خصمان وحليفان في الوقت نفسه. يكيد أحدهما للآخر ويمكر به غير أنه في الوقت نفسه يطمع في القبض على شيء من خياله.

عين تسبق الحواس

من سوء حظ الناقد أن يقف حائرا بين الاثنين كما لو أنه ميزان.

فهو يخشى أن يستسلم لهذيانات الشاعر لئلا يضيع الرسم باعتباره كيانا مجسدا وفي المقابل فإنه يخشى أن تؤدي توضيحات الرسام المقننة إلى تبدد الغموض.

من بين الاثنين لا يفضل العامري أحدا على الآخر. إنه ينظر بحنو إلى الاثنين لا لأنهما الكائن نفسه بل لأنه يعرف أن الناقد هو خلاصة مزيجهما الذي يطوي صفحة الواقعية بيدين خياليتين.

يقول العامري “كنت مهووسا بالسماء وتشكيلات الغيم وكنت أرى فيها الخيل، الثيران، العصافير. الخيال كله. وكنت مهووسا يومها بسلفادور دالي وكانت أعمالي قريبة من أسلوبه. في مرحلة لاحقة أصبحت الطبيعة هي المرجعية الأساسية لي. أعتقد أنها المعلم الأكبر لأي إنسان يريد أن يكون مبدعا، لأن فيها توجد مفارقات وما من عبث. أدخل إلى التفاصيل وأغوص في العمق عبر بحث جمالي دقيق غير سطحي وأقوم بكثير من التأملات وأصور الكثير وأراقبها وأرى أن الطبيعة متوالدة جماليا. ينتهي عمر الإنسان ولا ينتهي البحث فيها”.

ذلك ما يمكن أن يقوله أي تجريدي تعبيري.

غير أن ما يقوله العامري لا يمكن سوى أن يفسر النقلة الجذرية التي تعرضت لها تجربته رساما، حين انفتح على التجريدية التعبيرية راكنا ماضيه الشخصي جانبا. لقد انتهت العلاقة بدالي حين اكتشف العامري متعة النظر إلى تجليات طبيعة متخيلة. طبيعة استطاع أن يتسلل إليها من خلال مرجعيات فنية، صارت العودة إليها بالنسبة له طقسا مقدسا.

سيقال مجازا إن العامري يرسم بيد الشاعر. غير أن الأمر ليس كذلك. العامري رسام محترف، درب يديه لكي تكونا جاهزتين لاستلهام خيال سلسلة من المواعيد مع فنانين، جعلوا لتلك الغيوم التي كان العامري يراها معنى مجسدا.

الشاعر الذي سبقه

لست منصفا حين أنظر إلى الشاعر باعتباره الشخص الأخير. العامري نفسه لن ينزعج. أنا أعرف ذلك. يحاول أحيانا أن يكون عمليا.

“معراج القلق” هو عنوان كتابه الشعري الأول الذي صدر عام 1990. بعده أصدر “خسارات الكائن” 1995 و”بيت الريش” 1999. “قميص الحديقة” 2005 و”كتاب المغني الجوال”. هل أصدر كتابا بعنوان “شجرة الليف” وهو كما قيل عن مدن غور الأردن؟ ذلك ما لا أعرفه. غير أنني أتوقع ذلك. لقد سبق لي أن قرأت له نصوصا نثرية تنتمي إلى ذلك النوع من الكتابة التي يرعاها الشاعر بعين غزاله الدامعة.

مرهف وعميق ومعذب بأسئلته محمد العامري في الشعر.  لقد وجد في الرسم تعويضا مرحا عما يعذبه في الشعر.

9